23 ديسمبر، 2024 3:37 ص

أزمة الديمقراطية في العراق

أزمة الديمقراطية في العراق

بدءا لابد من القول أن الإيمان بالقيم الديمقراطية هو أساس الديمقراطية، أو بكلمات أخرى لا ديمقراطية بدون الإيمان بالقيم الديمقراطية. والا فان الديمقراطية تصبح جسراً لأعتى القوى فاشية أو أكثرها فساداً وتخلفاً.
وبمناسبة هذا الاستهلال هناك مقولة رائعة لرستم حيدر سأخرج بها عن السياق قليلا: ليس هناك أدل على تخلف شعب مثل الحديث في البديهيات … وللاسف لازلنا نتحدث في البديهيات، او بكلمات اخرى نختلف على البديهيات.
وبالعودة لأصل الموضوع ، فان الديمقراطية في العراق مستنبتة وفي غير أرضها، فهي لم تنشأ بفعل تطور تراكمي ولا بارادة شعبية انما بارادة احتلال اجنبي. ففي عشية وضحاها، انتقلنا من نظام فاشٍ (وليس ديكتاتوريا – وهذا الخطأ الكبير الذي يقع فيه كثيرون) الى ديمقراطية (ليبرالية)، فأصبح لدينا الكثير من الفوضى والقليل من الديمقراطية.
تُخلف الأنظمة الفاشية وراءها عادة دماراً وفوضى (المانيا، ايطاليا، العراق، ليبيا، الصومال … الخ). فهي باسلوبها (قطع العقدة بدل حلها) تفاقم أزمات البلد وتمنع ظهورها في الوقت نفسه، وما ان تسقط الفاشية حتى تنفجر تلك الازمات مرة واحدة، يرافق ذلك فوضى شديدة وانفلات أمني وتخلف في الوعي وحَيرة وطنية وغياب للرؤية وتشرذم اجتماعي وضياع قيمي. وحدها الشعوب التي توفرت لها قيادات رصينة، تكون قد اختصرت الزمن وخرجت من هذه المعادلة بأقل الخسائر (أديناور في المانيا – ولو أن ذلك حدث بعد خمس سنوات من فوضى مدمرة).
في العراق، فاقم الأمور وزادها تعقيداً وسوءاً كتابة الدستور وسط ازمة ثقة قاتلة بين المكونات السياسية. فالشيعة كانوا خائفين من عودة النظام الفاشي، لقد كانوا بصراحة تتملكهم روح الاقلية رغم شعورهم بأنهم الاكثرية. وكان للأكراد إقليمهم المستقل تماما عن سلطة بغداد المركزية. أما السنة فالأغلبية كانت قد قاطعت – وقتها – العملية السياسية، ومَن شارك فيها منهم كانت تتملكهم مشاعر متضاربة ويمكن وصفها بأنها غير ايجابية تجاه العملية السياسية. وهكذا حلت المكونات محل الشعب وتأسست دولة طوائف (اكراد وسنة وشيعة). وضاع مركز القرار في السلطة، لأن كل جهة كانت تخشى أن يكون مركز القرار بيد الجهة الاخرى، فولد عندنا نظام برلماني غريب، وامتدت المحاصصة الى أصغر منصب بالدولة، وصار رئيس الوزراء لا يستطيع أن يقيل وزيراً او وكيل وزير أو حتى مديراً عاماً تعين قبل نفاذ الدستور، وإن أقال أحدهم أرجعه القضاء. وصار تعيين وزير أو وكيل وزير او سفير او رئيس هيئة تحتاج لصفقات ومقايضات وربما حتى تدخلات خارجية، وكثر المتدخلون بشأن الدولة وامورها، وتعددت دوائرها، ورحم الله الرصافي الذي وصف حكومات العهد الملكي:

كــثــرت دوائرهــا وقــلّ فَــعــالهــا
كــالطــبــل يـكـبُـر وهـو خـال أجـوف
كــم ســاءنـا مـنـهـا ومـن وزرائهـا
عــمــل بـمـنـفـعـة المـواطـن مُـجـحِـف
تــشــكــو البــلاد ســيـاسـة مـاليـة
تــجــتــاح أمــوال البــلاد وتُـتـلف
باختصار شديد: ولدت دولة مشلولة سياسيا واقتصاديا ومنقسمة اجتماعيا …
من جانب آخر أن الذهاب الى الديكتاتورية اليوم سينتج عنه:
الحرب الاهلية والتقسيم أو في احتمال نادر قيام نظام فاشٍ آخر، لأن ظروف العراق التاريخية والاجتماعية والسياسية لن يتمكن فيها بعد الآن أي نظام ديكتاتوري من الاستمرار ما لم يلجأ لأساليب فاشية.
فما الحل؟
لابد من التمسك بالدستور أولا،
والفصل بين الوزارات اذا ما تمسكت الكتل باختيار وزرائها، وبين غيرها وما دونها (وكيل الوزير، السفير، المدير العام … الخ)، والتي يجب ان تحكمها السياقات القانونية والادارية (الكفاءة، النزاهة، القدم)، وان يتم ذلك بشفافية عالية. هذا ثانياً.
واختيار قيادة اصلاحية – وهذا ثالثاً وهو أساس الحل – تجمع بين دهاء السياسة، وحكمة القيادة، وبُعد النظرة، وخبرة الإدارة، وعمق الثقافة.
وقد ورد في المأثور: ان هذا الامر لا يصلح الا لقوي من غير عنف ولين من غير ضعف.
ان القائد هو مَن يكسب ثقة الشعب به، اما القائد الفذ أو المميز فهو مَن يعيد للشعب ثقته بنفسه، وهذا ما يحتاجه بالضبط اي بلد يريد أن يلملم جراحه وأن ينهض ويتقدم.