خوض البحار الهائجة لا يكون بقارب متهرأ
هذا ملخص القضية
ازمة الفكر الالحادي انه يقبل بالعقل فقط كأداة للمعرفة وينكر أي شكل من أشكال المعرفة , بما فيها الوحي , ولكن لنسأل أنفسنا هل وسيلة العقل كافية لإدراك العالم المرئي الذي نعيشه ونحسه ونراقب تطوراته فان كان عاجزا عن ادراك ما هية العالم المرئي فما بالك بالعوالم الاخرى واللامرئيات الاخرى
لنأخذ مثلا الغزالي رحمه الله في انتقاله لاستقصاء ادوات المعرفة وكما ذكره في كتابه المنقذ من الضلال في بادئ امره كفر بكل المسلمات وارتكن الى الحسيات ولكن بعد إمعان نظر خلص الى الاتي الذي أوجزه بهذه الأسطر (من أين الثقة بالمحسوسات ، وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ، وتحكم بنفي الحركة ، ثم ، بالتجربة والمشاهدة ، بعد ساعة ، تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة ( واحدة ) بغتة ، بل على التدريج ذرة ذرة ، حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار ، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبـه حاكم العقل ويخونـه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته.)
وعندها انتقل الغزالي الى حاكم العقل وانظروا كيف كان موقفه من حاكم العقل كأداة من أدوات المعرفة فقد قال ( فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً ، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات ، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة ، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد ، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً ، موجوداً معدوماً ، واجباً محالاً. فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد كنت واثقاً بي ، فجاء حاكم العقل فكذبني ، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي ، فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر ، إذا تجلى ، كذب العقل في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، وعدم تجلي ذلك الإدراك ، لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً ، وأيدت إشكالها بالمنام ، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً ، وتتخيل أحوالاً ، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً ، ولا تشك في تلك الحالة فيها ، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك [ التي أنت فيها ] ؛ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك ، كنسبة يقظتك إلى منامك ، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها! فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها )
هنا غادر الغزالي حاكم العقل كونه اداة وحيدة للمعرفة ولم ينكر انه اداة من ادواة المعرفة الا انها اداة قاصرة في استقصاء العالم الذي نعيشه ونحسه فكيف بعالم المشيئة والارادة ان العقل وحده لا يصل بالانسان الى مرتبة اليقين الكامل البتة لان المراد من مرتبة اليقين الكامل هو أن يستيقن الإنسان بوجود حقائق الأشياء كلها كما هي موجودة فعلا , ولكن العقل وحده لا يستطيع ان يهب الانسان هذه الدرجة العليا من اليقين , لأن غاية ما يحكم به العقل هو إنه يثبت ضرروة وجود شيء ما , أو انه يحكم انه يجب أن يكون ذلك الشيء موجودا , ولكنه لا يستطيع أن يحكم ذلك الشيء موجودا وإنما تنال مرتبة اليقين هذه بأن يتقدم الإنسان من درجة (يجب أن يكون) الى (موجود فعلا) حيت يصحب العقل رفيقا آخر يصدق أوجهه الظنية ويلبسها لباس الأحداث المشهودة أي ما يقول العقل (إنه يجب أن يكون) يخبر عنه ذلك الرفيق (إنه موجود في الواقع) ….. فان كان الامر يتعلق بمحسوسات الدنيا عندها يكون رفيق العقل الذي يبلغ حكمه مبلغ اليقين هو المشاهدة الصحيحة او التجربة , العقل عجز والتجربة اعانته في محسوسات الدنيا , وان كان الامر متعلقا بحوادث التاريخ الماضية واحداث الناس في الاماكن الاخرى فلا بد للعقل من رفيق اخر الا وهو كتب التاريخ وغيرها , وان كان الامر متعلقا بعالم اخر لا تسمعه اذن ولا شاهدت عين ولا غطته كتابات واخبار التاريخ فلا بد له من رفيق اخر الا وهو الوحي الالهي (مقتبسات من كتاب البراهين الاحمدية)
فلا مقطوع ابدا بحكم العقل في نشأة الخلق وخلقه وتدبيره , فلم يشاهد أحدا الله وهو يخلق الكون {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }الكهف51, ولا يوجد شاهد على ان الكون يثبت انه كان ازليا ولم يخلق فالأمر هو في التخمينات فقط بحسب شاهد العقل, وهذه التخمينات إذا ما أسقطناها على العقل سنرى ان الايمان مقرر به بحسب حكم العقل المجرد كما هو الالحاد فكل الفلاسفة وخاصة القدماء تفكروا في نشأة الخلق وغيرها من الأمور بالعقل فمنهم من آمن بوجود صانع مدبر صنع العالم ومنهم من قال بان الكون أزلي ولا يستلزم وجود صانع مدبر , فأين اليقين المزعوم في هذا الأمر الذي دحض إيمان المؤمنين وأيد كفر الملحدين الذي يدعيه بعض الملاحدة من امثال سامي لبيب وغيرهم ؟؟؟؟؟؟
ان الاحتكام الى العقل لا يفضي الى النتيجة الوحيدة التي أفردها الملاحدة والتي نشروها على الناس كانها الحقيقة المطلقة الوحيدة التي استنتجها العقل في فكرة نشأة الكون ولكنه سيفضي أيضا الى النتائج التي أيدها افلاطون وارسطو طاليس وغيرهم من الفلاسفة المؤمنين بوجود اله , فلا حكم بائن في هذه القضية فالمسألة تتعلق بالترجيح والتخمين لا باليقين القطعي , وهناك من الفلاسفة من رد ترهات الملحدين ودحضها الى غير رجعة كالغزالي رحمه الله في كتابه تهافت التهافت فهو يقول (لماذا يستحيل حدوث حادث بإرادة قديمة الاعتراض من وجهين: أحدهما أن يقال: بم تنكرون على من يقول: إن العالم حدث بإرادة قديمة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه وأن يستمر العدم إلى الغاية التي استمر إليها وأن يبتدئ الوجود من حيث ابتدأ وأن الوجود قبله لم يكن مراداً فلم يحدث لذلك وأنه في وقته الذي حدث فيه مراد بالإرادة القديمة فحدث لذلك فما المانع لهذا الاعتقاد وما المحيل له قولهم: لكل حادث سبب… فإن قيل: هذا محال بين الإحالة لأن الحادث موجب ومسبب. وكما يستحيل حادث بغير سبب وموجب يستحيل وجود موجب قد تم بشرائط إيجابه وأركانه وأسبابه حتى لم يبق شيء منتظر البتة ) أهـ .
ان مسألة الخلق من العدم يرفضها الملحدون كونها غير مدركة عقليا ولكنهم نسوا أن يبرروا لنا كيف ان الانسان بعقله يستطيع ان يخلق عالما في الرؤى والأحلام من لاشيء ومن العدم ويعيش الانسان في هذا العالم ويتفاعل معه وقد يصيبه الضرر منه نفسيا او ماديا وهو عالم خلق من العدم , فكيف خلق هذا العالم من قبل عقل نعرفه ونعرف فسلجته وابعاده ويستكثرون هذا الأمر على خالق مدبر قادر بديع ؟؟؟؟
ان الفلسفة الالحادية لم تجد لها حيزا على ارض الواقع كالحيز الذي اتاحته الشيوعية لها ولننظر اية نتيجة حققت واي تقدم احرزت للإنسانية , أفرزت لنا انظمة استبدادية وعقائدية منغلقة عاملت الإنسان كآلة وغيبت الفكر بشراب الفودكا والنتيجة انهارت تلك الفلسفة برحيل غورباتشوف وانتهى الى الابد شعار من كل حسب عمله لكل حسب حاجته ولترجع المجتمعات التي حكمت من قبل الالحاد لترتمي بأحضان الكنيسة من جديد وتتشدد في إيمانها التي حرمت منه أجيالا وأجيالا , بل الأمر اكبر من ذلك عندما إضطرت سلطات الالحاد ان تتعامل مع الدين مرة اخرى وتفتح بعض المجال امام الكنائس وغيرها للعب دور روحي في المجتمع عكس ما دعى اليه ماركس وانجلز .
وبعد هذه المقدمة ترقبوا الجزء الاول من سلسلة مقالاتنا القادمة (الفلاسفة رجال باحثون عن الله )