حين تتغير الأولويات وينشغل العالم بمصائب جديدة تضيع بين ذاكرته تلك القضايا التي كانت إلى وقت قريب تشغل حيزاً من إهتمامه لتصبح خارج السياق والتداول.
أزمات العالم التي تتجدد بذوبان أزمة لتحل محلها أزمة مستحدثة.
الحرب الأوكرانية-الروسية التي كانت إلى وقت قريب حديث العالم المأزوم سياسياً وإقتصادياً سيكون عليها الإنتظار في الحل بعد أن حلت مكانها حرباً وجودية تتخطى صراعاً بين بلدين على قطعة أرض مشتركة أو بئر نفط أو نزوة حاكم لإحتلال بلد ثانٍ.
فلسطين ذلك الجرح الغائر في الجسد العربي كانت البديل الذي غيّر عقول العالم، ورطتها إن الجميع في الشرق والغرب يراها القلب النابض له، سواء كان بالحرب أو السلام.
العالم مشغول اليوم بأكبر كارثة إنسانية تشهدها البشرية منذ عملية عاصفة الصحراء التي قادتها أمريكا في تسعينيات القرن الماضي لتدمير العراق بعد إكذوبة إمتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، كانت حرباً قاسية على العراقيين، أخذت معها البشر والحجر.
ما يحدث في غزّة بفلسطين أنها حرباً ليست بين جيشين متوازيين أو بين دولتين، بل بين جيش يمتلك ذلك الحجم والإمكانات من التسليح والسطوة في الجو والبر وحتى البحر، وبين شعب أعزل لا يملك من السلاح سوى الدعاء.
هي الحرب غير المتكافئة التي قد تتخللها سيناريوهات متعددة قد تستمر لسنوات مستعرة أو تعقد إتفاقات لوقف الإبادة لذلك الشعب الأعزل أو قد تحدث مفاجآت غير محسوبة، لكن المؤكد أن العالم ما بعد “طوفان الأقصى” الذي أحدث هزّة لإسرائيل لن يكون مثل ما قبلها.
في نهاية المشهد الذي يكون ثمنه أشلاء ممزقة وجثث متناثرة ويتامى ومشردين ومدن مهدمة سيجلس أمراء الحرب من رجال فائزين أو شبه فائزين، وآخرين مهزومين ليكتبوا لشعوبهم عناوين جديدة من المصائر ويوقّعوا على خواتيم شعوب أخرى مغلوبة على أمرها ستكون هناك يالطا ثانية تماماً كما جلس “ستالين وروزفلت وتشيرشل” في المنتجع الشهير في شبه جزيرة القرم التي كانت روسية قبل أن يهبها خروتشيف لأوكرانيا بعد هزيمة المانيا واليابان في الحرب.
إنشغل العالم بأحداث غزًة ومجريات ما يحدث وتناسى حروب أوكرانيا ومعها كل القضايا “الصغرى” من الإتفاق النووي الإيراني وما يحدث في العراق وسوريا ولبنان والسودان، تناسى كل قضايا الشعوب والأزمات الأخرى فأحداث غزّة حجبت ما قبلها، وكأن حال العالم يقول لنا “لا وقت لدينا لحل مشاكلكم، دبّروا أمركم بأنفسكم أو إنتظرونا ريثما ننتهي من أزمة فلسطين التي تم تحديثها تحت عنوان طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول”.
بِتنا ننسى همومنا ومصائب الآخرين لننشغل بأحداث غزّة وما يجري من صراع غير متكافئ تختفي ورائه دول وصراعات إقليمية بالوكالة، ستضاف أزمة جديدة إلى أزمات العالم ليست سياسية فقط، بل سترفع أسعار الطاقة لمعدلات جنونية في ظل القادم من فصل الشتاء، سيشهد العالم صعوداً بأسعار الغذاء إذا إمتدت مساحات الحرب أو إتسع نطاقها وشمل دولاً أخرى وسيجوع البعض، فالعالم مشغول بما هو أهم.
المصيبة الأكبر فيما لو إستُخدمت الأزمة وما يحدث في غزّة إلى إشعال حرباً عالمية ثالثة.
ضعوا أيديكم على قلوبكم وصلّوا إلى الله أن لا تطول هذه الحرب لأنها إن طالت فإنها ستأكل الأخضر واليابس وقد يطول بها الليل حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود.