18 ديسمبر، 2024 5:17 م

مأزق الأحزاب الكبيرة في العراق

مأزق الأحزاب الكبيرة في العراق

مأزق الأحزاب الشيعية الكبيرة له جوانب عدة من بينها عدم قدرتها على التجدد رغم ما تسعى إليه من مناورات من بينها الدعوات للأغلبية السياسية وبناء تحالفات غامضة مع بعض القوى السياسية.

قصة الأحزاب في العراق لا تشبهها قصة في دول العالم الثالث التي اختارت الأداة الديمقراطية طريقا للحكم رغم أن ما حصل في العراق وهو أن المحتل الأميركي قد فرض شكل الديمقراطية ومضمونها على الأحزاب الإسلامية وعلى الكتل التي نشأت بعد 2003.

أبرز ظاهرة تصاعدت بمرور الأيام كثرة أعداد تلك الكتل اللاهثة وراء هدف الفوز الانتخابي ليس من أجل الوفاء للناس وتحقيق حاجاتهم، وإنما للدخول في دهاليز إمبراطورية الفساد الممتلكة لسطوة التحكم بالسياسيين وتجيير المنافع في المؤسسات الحكومية لعمالقة هذه الإمبراطورية. لقد تشكل رسميا في العراق أكثر من 150 حزبا وهو رقم متواضع في زمنه الاعتيادي، أما في الحملات الانتخابية فيزيد عدد الكتل على 300 إلا أنه ومنذ عام 2003 كانت الهيمنة لأحزاب الإسلام السياسي الشيعي، وهي ليست أحزابا بالمعنى المتعارف عليه ما عدا حزب الدعوة المحتفظ بتاريخ تنظيمي أسسه الراحل محمد باقر الصدر، أما مجلس الحكيم فيرتبط بعائلة الحكيم ذات المكانة الاعتبارية لدى الشيعة، وقد خرج منه تشكيل عسكري؛ فيلق بدر داخل إيران إبّان الحرب العراقية الإيرانية خلال فترة زعامة الراحل محمد باقر الحكيم، والتيار الصدري ارتبط بالمرجع الشيعي محمد الصدر والد مقتدى الصدر الذي أسس جيش المهدي.

مصدر الزعامة الشيعية في العراق ارتبط بعائلتي الصدر والحكيم وكل ما جاء بعدهما من تنظيمات وميليشيات شيعية خرجت من هذين البطنين، ولعل هذا الواقع هو الذي جعل الجسم شبه التنظيمي خاضعا لإرادة الزعيم الفرد، وانسحبت هذه الحالة على أغلب الكتل السياسية العراقية التي نشأت داخل العراق استجابة للجو الانتخابي، فلم تظهر أحزاب سياسية حقيقية كامتداد للحركة الوطنية العراقية، إنما نشأت تجمعات وكتل بخلفيات الطائفة والعشيرة استجابة للمحتل الأميركي والرعاية الإيرانية، ومن هنا اختلت قواعد المعمار السياسي منذ البداية بعد تكريس الطائفية السياسية، وأصبح الجميع يبحث عن الطرق المتخلفة لكسب الجمهور لتتم عمليات الجذب الجماهيري من مصدرين رئيسيين؛ هما المرجعية الشيعية التي اقترنت بالسيد السيستاني ومرجعيات أخرى في إيران، وكذلك الزعامات العشائرية التي يختلط فيها العرب السنة والشيعة.

أما التنظيم السني الوحيد في العراق فهو الحزب الإسلامي ذو مرجعية الإخوان المسلمين، فيما لم يجد التيار الليبرالي مكانا له يتناسب وروح الديمقراطية الغربية ومفهوم دولة المواطنة والتي لو أخذ هذا التيار مكانته بدعم أميركي لما حصل الذي حصل في العراق من تفكك وتدهور في جميع جوانب الحياة. ورغم الكثير من الملاحظات حول حركة إياد علاوي لكنها كانت التنظيم الليبرالي الوحيد الذي جاء من الخارج برعاية الاحتلال لكن الأميركان تخلوا عنه بعد عام من تولي علاوي رئاسة الوزارة عام 2005، هكذا أراد الأميركان تقسيما إثنيا وعرقيا ينزل من أعلى قمة الهرم السياسي وحتى قاعدته العريضة.

كان المطلوب طرد الفعاليات السياسية القائمة على السياق المتوافق مع التقاليد الديمقراطية، وغلق جميع أبواب الحرية السياسية لنمو تنظيمات وفعاليات المجتمع المدني رغم الدعم المادي والمعنوي الذي قدمته المؤسسات الأميركية في الأيام الأولى لبعض الناشطين العراقيين في السياسة والإعلام، لكن اللعبة تعطلت وخاب ظن الطامحين إلى عراق ديمقراطي مدني، وانسحب الداعمون بعد قرار دعم وتكريس الحركات الطائفية حيث ولدت منظمات وجمعيات دعوية دينية وطائفية أسست لها المنابر والإذاعات والقنوات الفضائية اشتغلت في أوساط الشباب لكي تلغي المفاهيم الوطنية العراقية وتثير الأوهام بأن كل من هو وطني يرتبط بالبعث الذي تم اجتثاثه، وحصل فراغ سياسي كبير بعد سقوط النظام الذي كان يتعاطى بأيديولوجية الحزب القائد الذي لم يسمح لغيره بالعمل السياسي. كان هناك رقم مذهل لعدد البعثيين تجاوز الأربعة ملايين منتسب تبخروا في التاسع من أبريل 2003 وتلقوا ضربة الاجتثاث والمساءلة باتهام جميع البعثيين بالصدامية والكفر ثم الإرهاب، ولم تعط نافذة سياسية إلى بعض البعثيين الوطنيين لأخذ فرصة المشاركة السياسية لبناء البلد، فقد اعتبر الفكر فاشيا والتنظيم صداميا، حتى وإن كان بعضهم معارضا لصدام حسين، رغم أن هناك تنظيما بعثيا يحمل ذات الأيديولوجيا يحكم في سوريا ولديه فرع عراقي وقد تحالف معه حزب الدعوة قبيل الاحتلال وأصدرا بيانا مشتركا إلى جانب الحزب الإسلامي في لندن أدانا فيه حملة الاجتياح العسكري الأميركي للعراق.

كانت سياسة الأحزاب الإسلامية تهدف إلى منع الخيارات السياسية من غير الإسلام السياسي للحضور والمنافسة أمام الجمهور العراقي لكي يتحقق الاستفراد السياسي إلى درجة اضطرار قيادة الحزب الشيوعي العراقي للدخول في الانتخابات تحت يافطة دينية أصبح فيها زعيم الحزب الشيوعي، حينذاك حميد مجيد، عضوا بالبرلمان. ولو تمكنت تلك الأحزاب الكبيرة من تقديم الإنجاز إلى الناس لأصبح الإسلام السياسي الشيعي قائدا فعليا للمجتمع العراقي لكن ما حصل هو العكس، فقد تورطت الأحزاب الكبيرة في الخضوع والتستر على مافيات الفساد التي نهبت أموال العراق، وقدم نموذج الإسلام السياسي تجربة مرة أساءت إلى شيعة العراق وإلى التجربة السياسية لما بعد 2003 وزادت على ذلك حالة تجييش الشارع وتحويله إلى مقاطعات لهذا القائد الشيعي أو ذاك، كما تلاشت لعبة الاستناد على مكانة المرجعية الشيعية في كسب ولاء الناس.

الإنسان الشيعي بحاجة كغيره من المواطنين إلى أن يعيش بضمانات صحية وتعليمية ومدنية، والشاب الشيعي بحاجة إلى تحقيق طموحاته في الحياة المدنية والرفاه الاقتصادي، لم تعد الشعارات تقدم له الخبز والصحة والتعليم والرفاه، وهكذا سقط الشعار “الطائفي” بعد انتهاء رحلة التجييش ضد الآخر (البعثي الإرهابي الداعشي) وأصبحت المواجهة مباشرة بين المواطن العراقي العربي السني والشيعي، وبين مسؤول الحزب الكبير، الذي سقطت بين يديه أسلحة الدفاع الحقيقية التي تعينه على تبرير جرائم الفساد المليونية ضد الإنسان البسيط، وحين تنجلي ساحة المعركة الحربية ضد داعش بانتصار العراقيين بدمائهم الزكية الذين سيعودون إلى كربلاء والنجف وبغداد وغيرها فماذا ستحضر لهم الأحزاب الكبيرة؟ أي خصم جديد سيتم اختراعه وتسويقه للاستفراد والهيمنة غير الخصم الحقيقي وهو الفساد العام من نهب وسرقة؟ هل ستقدم الأحزاب السراق إلى القضاء العادل، وهل ستنتهي تقاليد وثقافة الرشوة التي تكرست بين شبكة الدوائر الحكومية؟ وما هي المبررات لبقاء السلاح خارج الدولة إن لم يكن لإرهاب الناس وابتزازهم؟

إن المعركة السياسية المقبلة هي معركة مدنية والمؤهل لحمل الشعار الحقيقي الجاذب للناس هو السياسي النزيه الذي أصبح عملة نادرة بين سياسيي اليوم. لقد انتهت فرصة الأحزاب الكبيرة في ملعب السياسة في العراق، ولم تعد هناك ثقة بها من قبل المواطن البسيط، ولهذا فإن تجديد لعبة الشعارات الطائفية لم تعد لها مكانة في نفوس الناس.

إن مأزق الأحزاب الشيعية الكبيرة له جوانب عدة من بينها عدم قدرتها على التجدد رغم ما تسعى إليه من مناورات من بينها الدعوات للأغلبية السياسية وبناء تحالفات غامضة مع بعض القوى السياسية. وهناك مشكلة ستواجهها تلك الأحزاب الكبيرة هي النمو السريع لدور بعض ميليشيات الحشد الشعبي في الحياة السياسية المدنية مما سيؤدي إلى تصادم هائل بالمصالح. والمأزق السياسي الأخطر هو القدرة أو عدمها ما بين بقاء الولاءات الأيديولوجية والسياسية مع طهران، أو الخروج منها في خيار الولاء للوطن العراق، في ظل السيناريوهات الجديدة للإدارة الأميركية التي ستسعى إلى تقليص الدور القيادي لإيران في العراق.

هناك احتمالات لتفكك الحيتان السياسية الكبيرة وانتهاء المقدسات السياسية التقليدية، وتوجد كوادر قيادية داخل تلك الأحزاب مازالت أمامها فرصة العمل الوطني بلا طائفية لا شك أنها لا تريد خسارة مكانتها وامتيازاتها، وهي مهددة من زعامات تلك الأحزاب بفقدانها إن حاولت التململ باتجاه كسر القيود الطائفية والتمرد على “قدسية” تلك الزعامات، وهي أمام فرصة تاريخية للخروج نحو الفضاء الوطني الكبير للعمل بتقاليد حب العراق وأهله وبناء النظام المدني، وعدم تعليق الآمال على وحش الطائفية والفساد، وسيجدون من يتفاعل معهم من عرب العراق السنة الذين لا يعلقون آمالا تذكر على الزعامات الطائفية السنية التي باعت طائفتها بأثمان رخيصة ولا على أولئك “المجددون” للشعار السني من المقاولين الجدد، فكلاهم في الهوى سوى ولا أمل بهم.

هناك نخب ثقافية وسياسية من بين العرب السنة غير محترقة لديها المؤهلات الوطنية للتفاعل مع أقرانهم داخل الوسط العربي الشيعي لبناء مشروع لا طائفي مستقل، يمكنها دخول معركة الانتخابات المقبلة وأخذ فرصتها الكبيرة إذا ما تم اتخاذ إجراءات جدية في قانون للأحزاب يمنع الفرصة أمام الأحزاب الطائفية الكبيرة من التحكم بالمشهد، وقانون للانتخابات لا يتيح الوجود لهيئة انتخابية مسيسة.
نقلا عن العرب