7 أبريل، 2024 2:48 ص
Search
Close this search box.

أركيولوجيا الجنون

Facebook
Twitter
LinkedIn

ما زال معنى الجنون غامضاً بعض الشيء، فلو قلنا إنَّ الجنون صفةٌ للمرء عندما لا يتَّحد مع سواه في المغزى، أو قلنا إنه الصفة التي تجعل المرء مالكاً لزمام نفسه في نظر نفسه وكفى، وتجاهلنا المعنى الآخر للجنون وإن كان نادراً، أقصد ذلك المعنى الذي يشير إلى أنَّ الجنون صفةٌ لا يستحقُّها المرء إن كان وحيداً في الصحراء، بل يستحقُّها فقط عندما يكون قطرةً لا غير في الخضمّ، فإنَّ مقاربةً مثل هذه لتحديد معنى الجنون، سوف تمثِّل تراجعاً خطيراً على مستوى تحديد معاني الأشياء، بل ربما كانت الخطورة أكبر، من جهة أنَّ الإنسان الحديث على وجه التحديد، لا يقنع بأن تمدَّه النبوات وسائر القوى الميتافيزيقية بالعون، كما كان شأن الأجيال التي سبقته في الوجود، إذ من المسلَّم أنَّ تلك الأجيال كانت لا تتردَّد إطلاقاً في احترام الملاك جبرائيل، إلى درجة أنَّ النساء كنَّ يتحجَّبن منه بمجرَّد أن يخبر عن وجوده في رأسه أحد الأنبياء.
كانت التهمة الرئيسية التي توجَّه إلى الأنبياء هي الجنون كما تعلم أيها القارئ، ولم يكن أحدٌ من الأنبياء مجنوناً بالطبع، ليس لأنهم على درجةٍ عاليةٍ من كفاءة التفكير في رأيي، ولكن لأنَّ الجنون لا يكون من صفة الفرد بما هو فردٌ على الإطلاق، فكلَّما ارتقى الإنسان في سلَّم فرديَّته، ارتفع منسوب فرادته في المقابل، وصار مهيَّأً لأن يكون عبقرياً أكثر، ومن الطبيعيّ أن تكون النبوَّة هي الذروة العالية بالنسبة إلى هذا الوجود المتميِّز جدّاً في نظر الله، أعني العبقرية، وبناءً على ذلك، فإنَّ الفرد ما إن يفقد فرديته، حتى يفقد فرادته، الأمر الذي يعني أنَّ العبقرية بالنسبة إلى مثل هذا الكائن الممسوخ بعيدة المنال.
أنا لا أعتقد أنَّ الجماعات والشعوب قادرةٌ أصلاً على اتخاذ القرارات الصائبة، لأنها لم تختر لنفسها طريقةً واحدةً في التفكير إلا بعد تواطئها الخفيّ على اعتناق عقيدة الغوغاء، فالغوغاء وحدهم هم القادرون على التفكير بطريقةٍ لا تنمُّ عن تميُّز أيِّ واحدٍ منهم عن الآخر، بل هم لا يفكِّرون أصلاً، وإنما يعتنقون الأفكار والمعتقدات كما لو أنهم يتناولون وجبةً موحَّدةً بطريقةٍ إجباريةٍ في أحد المعسكرات، ولهذا فليس أمام الباحث المفكِّر إلا الإستهزاء بقرارات الشعوب جميعاً عندما يقوم باتخاذها هذا الرعيل من الغوغاء، وأنا أعني هنا الشعوب عندما لا تستنير بأفكار الكائنات العبقرية التي ارتفع منسوب فرديتها وفرادتها، بحيث أصبحت قادرةً على اتخاذ القرار العبقريِّ الصائب، ولا بأس بعد ذلك أن يقال عن القرار المتَّسم بالفردية والفرادة أنه قرار شعبٍ كاملٍ، لتدوَّن له هذه المنقبة غير المستحقَّة في التأريخ.
الجنون صفةٌ من صفات الجماعة على الدوام، وليس صفةً من صفات الفرد إطلاقاً، كما يعتقد ذلك السيد نيتشه بوضوحٍ، وهكذا الأحزاب والكيانات السياسية التي تكون وظيفتها في الشرق الأوسط غالباً أن تلعب دور الكبش الذي يحتاجه الراعي لقيادة القطيع، وإلا فإنَّ الراعي مستعدٌّ لأن يقدم على ذبح الكبش القائد في اللحظة التي تنتفي فيها الحاجة إلى أن يلعب هذا الدور، فإذا تمَّ اختزال هذه الجماعات إلى كيان الكبش، فإنه يتضح الوجه في إسناد صفة الجنون إليها، في حين لا يمكن إسناد الصفة ذاتها إلى ذات الراعي، مع أنه بعد تحليله إلى مركَّباته الأوَّلية يمثل مجموعةً هائلةً من الأفراد وليس فرداً واحداً، لأنَّ المجموع الذي ينحلُّ إليه الراعي لم يفقد فرادته من خلال الإحتفاظ بفردية آحاده، ولا يستطيع الكبش أن يقوم بالعمل نفسه في جميع الأحوال.
المجموع كلُّه لا يساوي فرداً واحداً، هذه هي القاعدة الأساسية التي تبنى عليها ركيزة المجتمعات العالمية كلُّها، وليس الأمر منحصراً في مجتمعات الشرق الأوسط بالطبع، فقل لي بربك، ماذا يتبقى من عبقرية الإنكليز إذا ما حذفنا منهم جنون شكسبير وبرنادشو على سبيل المثال، وماذا يتبقى من عبقرية الألمان إذا ما غضضنا النظر عن غرابة أطوار شبنهاور وعائلته كانت وهيجل وغوته وريلكه، وكذلك الفرنسيون، سيكونون شعباً من الغوغاء لو أنهم تخلَّوا عن بودلير ومالارميه وجان بول سارتر ومن لفَّ لفَّهم في صناعة الجنون، وكذلك قل عن شعوب الشرق الأوسط أيضاً، فمن منا يعتبر رجلاً مثل غاندي كائناً عاقلاً لو أنه شاهد رجلاً شبيهاً به يتصرَّف مثله الآن ليحيي أمةً ميتةً بالكامل، وكذلك بوذا، وكذلك ماو في الصين، ولا يختلف الأمر مع الإمام الخمينيّ إذ كان زملاؤه من علماء حوزة النجف يعفِّرون كوز الماء الذي يشرب منه هو أو أحد أبنائه بالتراب ليطهِّروه من النجاسة المعنوية التي يزعمون وجودها فيه، لأنه كان محتفظاً بمقدارٍ كبيرٍ من فرديته وفرادته في الحقيقة، وكذلك السيد محمد باقر الصدر، فلقد شهدت بنفسي كيف أنَّ بعض من يزعمون أنهم أمناء على فكره الآن كانوا يكتبون التقارير السرية ليحصِّنوا الناس من فايروس الجنون الذي زعموا وجوده في فكره، وناهيك عن السيد محمد الصدر، فلقد كان عقلاء زمانه كلُّهم تقريباً يعتقدون بجنونه، مع أنه كان أشبه إنسانٍ بالأنبياء في القرن العشرين على الإطلاق.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب