18 ديسمبر، 2024 7:49 م

جلس أمام حاسوبه الشخصي، كان عليه أْن يكتب عن حدث بعيد في الزمن، لكنه ما زال طريا في التفاعل، كأنه حدث أمس. كانت الصور تتسابق أمامه، لدرجة يصعب معها أيهم يختار منها لبدء قصته. كانت الجائزة مغرية، والفوز بها غنيمة بحد ذاتها. ولكن بالنسبة له لم تكن هي الغاية. فلطالما تمنى أن يتشرف قلمه بالكتابة عن ذلك الحدث، وأن يسطر ولو بضع كلمات طيبة ومؤثرة في حضرة شهيد الله، ومن كان معه، ممن بذلوا مهجهم دونه. ولكن الكلمات لم تكن تطاوعه. ثم أي الكلمات يمكن أن تكتب لتنال شرف الترنم بهم. في هذه المرة، عاهد نفسه أن يجبرها على نيل هذا التكريم. كان عليه أن يذهب الى التاريخ بنفسه، ليسأله ( ماذا جرى؟ ولماذا جرى؟ ). أدار محرك البحث في حاسوبه الشخصي، والذي سرعان ما ظهرت نتائجه. كان العنوان الأول للنتائج ( نقش في ذاكرته؛ بالسيف يكتبك المنتصر. إلا الطف؟ كان مداده فيها الدم ). أما المشكلة الأخرى التي واجهته هي؛ من أين يبدأ، أيبدأ من الطف؟ ولكن هل كانت معركة الطف هي البداية؟ أيبدأ من سقيفة ( بني ساعدة )، أم يبدأ من يوم ( الرزية )؟. كانت الحيرة والتسأولات تكبر وتزداد كلما حصل على معلومة جديدة، لكنه قرر في النهاية أن يبدأ بمقدمته من أول صراع وقع على هذه البسيطة بين قابيل وهابيل ( في لحظة جنون، قتل ربع العالم بقوته! ولكنه عجز أن يمتلك حكمة غراب)؟!. كان عليه أن يعرج على الصادق الأمين ( والذي لطالما أعجبوا بصدقه، ولكن حين تحدث أخيرا؛ كذبوه )؟. مع أنه ( عاش معهم، وبذل حياته من أجلهم، فكان جزائهُ منهم؛ أن بخلوا عليه بقلم وقرطاس )؟!. هل كان غل قلوبهم في الطف وما بعدها، على جده وأبيه، وما جرى في يوم ( الفرقان ) هو السبب، تسائل؟. كان شريط الأحداث يتسع أمامه، وعليه أن يجمع أطرافه، ويجعله يتسق مع الغاية التي يروم الوصول اليها. وقف أمام أبواب الشام، ولكنه لم يستعجل دخولها، لرؤية أمرأة سبية، وعليل أنهك المرض والحزن وعذاب الطريق الطويل جسده، يقودان أيتام ( آل محمد ) تحت سياط البغاة، للوقوف أمام حاكمها، والذي ( علمه أبوه؛ كيف يرفع آيات الله على رؤوس الرماح. ففعل ). وها هي أرض صفين ( في مساء ذلك اليوم؛ رفعت مصاحف الرب، على رؤوس الشياطين، وسط صيحات الأغبياء وتأييدهم، وضحك الناكثين وتصفيقهم، ودهشة الصالحين وآهاتهم ). أيمكن أن تكون المعركة الحقيقية قد بدأت فعلا من هنا؟ ولكن ألم تسبقها رايات الغدر في يوم ( الجمل )، وقبله خيانة القوم بعد غدير مائدة الله العظيمة. حين أدى الرسول أمانة الله، بعد أن ( أمره، خيره، هدده، ثم وعده بالحماية. فالقوي عاصم. إستجاب. أوقفهم، سألهم؟ أجابوه. بلغهم، أمرهم، أطاعوه. عندها تمت النعمة ). أخيرا حط رحاله في أرض الطفوف. تسارعت دقات قلبه، وتزاحمت الأفكار بعقله، وهو يستعرض بخياله صور المعركة. ولكن ذلك كان لا يتناسب مع بطىء أصابع يده، والتي تسطر الكلمات على شاشة حاسوبه. أكان عليه أن يتوقف قليلا في المدينة، ليمر على ( الكريم المسموم )؟. كان عليه أن يعيد ترتيب أفكاره من جديد. قرر أن يكمل جولته في أرض المعركة، حيث مساء عاشوراء ( حين حل المساء، كانت مزامير داوود؛ تسمع عند خيم العطشى. وعلى الجانب الأخر؛ كان الثمالى يعزفون مزامير الشيطان، على كؤوس الخمر ). عندها صارح القائد أصحابه ( في تلك الليلة الأخيرة معهم، إمتحنهم. أبلغهم إن من أراد البقاء معه؛ سوف لا يرى ليلا بعد هذا أبدا. في الصباح؛ نجحوا جميعا في الامتحان )!. حل صباح العاشر من المحرم، ولكن أي صباح؟ صباح العطش يشتد بمن كانت( تعطش البحار والأنهار… فتستسقي بإسمهم. وعندما عطشو؛ بخلت عليهم بشربة ماء )!. وهنا بجانب ( العلقمي )، كتبت قصة الإيثار والفداء، قصة رجل ( إغترف بكفيه الماء، رفعهما إلى قرب فمه، دقق النظر فيهما. تراءت له صور العطاشى كالمرآة. عاتبت مروءته نفسه. رمى الماء من يديه! في تلك اللحظات؛ توقفت ساعة الزمن عن المرور، والأرض عن الحركة، لإلتقاط صورة لرجل لم يجد الزمان بعده بمثله ). ذلك الساقي الذي أقحم فرسه في النهر، بعد أن سقى الأرض بدماء البغاة. وملأ قربته بالماء، وإنطلق يسابق فرسه الريح، للوصول الى المخيم، ليسقي العطاشى. ولكن ( كفاه المقطوعتان… أمسكتا قربته الممزقة… ودارتا… لتسقي عطاشى الأرض والسماء )!. لقد غاب القمر. وبقي شمس الكون وحيدا ( قبل ساعة من سيل دمه، سالت دموعه على خديه. كان عظيما كأسلافه. عظيم كجده وأبيه. لم ولن يعرف رجل سواه… بكى حتى على قاتليه ). بدأت رحلته في أرض الطف تقترب من نهايتها، مع بداية زوال شمس الظهيرة.
لكن لا؟ ما زالت للأحداث كلمات تكتب، وحروف تنطق بشجاعة أمرأة، هي جبل الصبر، لله درها. ( بقلب أسد كقلب أبيها، قدمت زمام فرس المنية إلى أخيها. بقلب يمامة ذبحت أفراخها أمام عينيها، بكت على مصرعه. بقلب كجبل الصوان، صبرت على البلاء. بقلب لبوه كقلب أمها، وقفت تدافع عن أشبالها. فإن تكن أمها؛ أم أبيها. فإنها بحق؛ أم أخيها ). كانت خارطة الأحداث قد أكتملت، مع أخر صورة لأرض المعركة. ولكن بقي مقطع لصوت شق عنان السماء، وسافر عبر الزمن، مخترقا كل المسافات والأمكنة، ومنذ الطف وهو يصرخ ( ألا من ناصر ينصرنا )!. وما زال صدى ذلك الصوت يسمع عبر نبضات القلوب والضمائر، والتي تردد ويردد معها حتى الأرواح والأجنة ( لبيك… لبيك يا حسين ).
___________________
* القصة منشورة في كتاب النصوص الفائزة لمسابقة القصة القصيرة الثانية لمهرجان ( تراتيل سجادية ) الدولي الخامس.