23 ديسمبر، 2024 8:17 ص

أرضُ السواد .. وَهمُ الدولة !!

أرضُ السواد .. وَهمُ الدولة !!

يظنُ أهل العراق بان لديهم إرثاً يعطيهم الحق في التمايز على الاخرين ومن خلال ذلك فانهم يعكسون الاساءة على انفسهم وهم لا يعلمون، يتلازم على اجتماع اهل السواد ظاهرة الافراط في الدين والدنيا .. النمطيه والتكرار والكهولة لم تبرز سمات وملامح ابداعية خاصة في الشخصية العراقية، وهي مبعثرة ومزدوجة ولا تمتلك القدرة الفاعلة على تجاوز التركة الثقيلة التي انتجها الموروث السقيم العقيم .. الذاكرة العراقية تزخر بالنطيحة والمتردية من التراكمات الصورية منذ اكثر من قرن ولم تجعل من ذلك مخرجا وقد امتلأت الطاقة الاستيعابية لها ولم تعد قادرة على ان ترى ابعد من زمن مقداره يوم واحد وبذاتيةٍ في السذاجة مدقعة ، وقد اغلقت تلك التراكمات العقول وأبلستها وحجزت عنها أية قراءات موضوعية تحدد أُطر المنظور حتى وان كان قريبا .. الشعوب التي لا تمتلك ذاكرة نقدية واعية عليها ان تتقبل إعادة تدوير شرعية الاستبداد والسلطة طوعاً وكرها، الازمات التي تبدأ من حيث لا تنتهي والصفحات التي تجري الى غير مستقر لها .. عنوانها الالهاء والاشغال والتضليل عما يدور فعلا من لدن اصحاب السلطة في الاروقة السياسية في الخضراء، وعما يدور فعلا في الازقة الضيقة من لدن اصحاب العلم والفقه وهم قاب قوسين او ادنى والاعرف منا بالسراء والضراء، اوراق المشهد تختلط باجندات مرجعية تعبر الحدود لتصميم البيوت القادمة من التحالفات لتثبيت ما تعاظم من العروش وما تكاثر من الاتباع وما انتشر من الحشود وما تفرق من الجماعات، كل ذلك يجري في لباس الديمقراطية الحاضرة المحتضرة كذريعة شرعية لما يحصل من خراب على الانساق الحديثة الاخرى، وبات الامر مجرد معادلات سياسية تلبس رداء الدين ثم تنسخ الرداء الى المدنية ثم تنسخ الرداء الى الوطنية لتعبر بذلك المعقول الى الافراط وتنتج تكتلات وكيانات مدفوعة الاثمان ما انزل التاريخ بها من سلطان باتت هي الحديث الحادث وباعدادٍ ممدودة لا طاقة لمن على ارض السواد بها .
إشكالية الاحتدام المزمن في الصراع على منظومة السلطة الحاكمة في ارض السواد لا تختلف ضمناً عن الصراعات الارثية المتلازمة على المنظومات الحاكمة في الشرق الاوسط بسبب ارتباطها الماضوي بنفس القاعدة التأسيسية والاصول الفكرية التي جثمت على العقل بازدواجية “العرب والاسلام” منذ 14 قرن عندما وضعت الشرعية العقائدية السيوف بدلا من الفكر بيد همجية البداوة وأسست الى صراع تسلسلي ينتهج عقيدة الاسلام السياسي ويتحرك ضمن مفهوم الجماعات والحركات المتمردة خارج نطاق المفاهيم المعاصرة للدولة الحديثة، وكل التحالفات والتكتلات في المشهد العراقي ترسم الخطوط الاولى لخريطة ميكافيلية تهدف الى السيطرة على السلطة التي تجري من تحتها الاموال والمناصب وهم فيها باقون وممتدون .. وبالتالي سيتم إنتاج وتدوير ذات النسق في الصراع التقليدي بمسميات نمطية تعود الى عقودٍ قد خلت وبخطاب سياسي طائفي قومي مزخرف بمفاهيم باتت غابرة لا تنتمي الى الواقعية والمنهجية وتغرق في الشعبوية الغوغائية التي تُشغل اغلبية العوام باتجاه تقديس الرموز والرايات والزعامات الى اجل غير مسمى .. فجميع الانفلاقات والانشطارات والتحالفات ترتبط بمكنوناتها بآلية الانتخابات وليس هناك اي مسوّغات لتشكيل تحالفات سياسية تعتمد على برامج تكتيكية على المدى القصير او المتوسط، كما تخلو الساحة من تحالف فكري يؤسس الى استراتيجية تمهد الى انتاج نهضة انقلابية تنموية وتعبوية تهدف الى تفكيك الثنائيات المتصارعة الاثنية والدينية والتي تعتبر الحواجز المانعة للانطلاق نحو التأسيس القانوني لفكر دولة عادلة غيرعقائدية تحتوي الفرد باعتباره فرداً ليرتبط بها بهوية فكرية سياسية وبهذا تستمد السلطة الحاكمة قوتها من شرعيتها بدلا من ان تستمد شرعيتها من قوتها ليكون الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي غاية سامية ترتقي بالانسان الى التطور الحضاري والتقني وتحرر العقل الجمعي من مترديات عصور التجهيل والظلام والتخلف الى حقبة تنويرية تقلب الطاولات على العقائد الولائية والخلفائية التي تُدرس مناهجها في المؤسسات والمدارس الدينية لتبقى الاجيال غارقة في اوحال مترديات الفكر الاسلاموي العروبي وما ينتج تباعا من النزاعات المذهبية والعشائرية والتي لا يمكن ان ترتقي لتكون منهجا مؤسسا الى فكر الدولة الحديثة الذي سيعمل بحتمية وجوده على تحطيم الاصنام ومعابد القداسة التي تسلطت وانتجت الافكار المتطرفة الارهابية الاصولية وهي تاخذ شرعيتها من احكام العلماء وفتاوى المرجعيات وفقه الولاة عبر قرون من التوارث الجيني “العمامة والعقال” .
في فلسفة العلوم السياسية يكون معيار النجاح هو مدى التقارب بين النظرية والتطبيق، بين مفهوم الدولة بتوصيفها ككيان اعتباري وبين الديمقراطية بتوصيفها كنظام حكم ، تظهر اشكالية التأسيس الاستباقي لتطرح تساؤل منهجي .. أيهما يسبق الاخر أو هل يمكن التوازي الزماني في التطبيق بين الدولة والديمقراطية ؟ في العراق وبشكل خاص قد أعطت التجربة بعد 2003 نتائج كارثية في التطبيق وهذا لا يحتاج الى تدقيق ولا تمحيص ولا دليل فالقائمون على الحكم ممن يطلق عليهم سياسي الصدفة ومن بارك فيهم وحولهم من المرجعيات الدينية قد أقروا بالفشل المدقع بحيث انهم لا يملكون الا ان يطلقوا عليها “العملية السياسية” و “التجربة الديمقراطية” أي ليس هناك تأسيس حقيقي للدولة كمؤسسات فاعلة وليس هناك مقاربة تطبيقية لنظام الحكم الديمقراطي الا من خلال شكلانية الالية الانتخابية وتعدد الاحزاب وخواء الممارسات الميدانية في مختلف الانساق .. واهل العراق على وَهمٍ في السعي بين الدولة والديمقراطية وان المعضلة الحقيقة هي في القصور الذاتي والموضوعي لظهور قيادات “مؤسسون” لا ترتبط بالموروث العقائدي والقومي وتبتعد عن الايديولوجيات المستوردة الغابرة وترتكز على فكر منهجي علمي يستحدث ويطور بيئة سياسية عصرية … على اهل السواد ان يأخذوا بالاسباب المتجذرة داخل المجتمع والتي تقف بالمرصاد ضد اي محاولة لتكوين دولة وهي معروفة ومشخصة على مستوى التاريخ والواقع .. المنظومة الدينية والقبلية .. وكل المعادلات اليوم هي نتائج مفرزة للخراب الذي تصنعه تلك المنظومات وعلى رأسها ثلاثية (الاحزاب والفساد والارهاب) من يحرك ويصنع تلك الرؤوس ومن يدعمها ويزيد من نفوذها ؟ على اهل العراق ان يتفقهوا في واقعهم وان لا يغرنّهم الخطاب المزخرف لولاة الامر وهم من يتحمل وزر ما جرى وما سيجري … عليهم ان يخرجوا من محدوديتهم بالمطالبة بالخدمات والعمل ..ألخ وان يطالبوا بدولة لا مركزية لكي يسقطوا ثلاثية الخراب وارتباطاتها العابرة للحدود .. أما الانتخابات كممارسة ورقية فلن تغني عن الامر من شئ وتأتي للتغطية على الانحراف الخطير في النهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والانهيار المتعاظم على مستوى الفكر والممارسة .. والسقوط الشمولي على مستوى الخطاب السياسي والخطب المرجعية في التمويه بالانتخابات المقدسة وما يترتب عليها سيكون مقدسا وبالانفاق الدستورية المظلمة او فتح نار جهنم او حديث السذاجة “المجرب لا يجرب” .. كل ذلك يجري من اجل تدوير الخارطة القادمة وترسيخ الاسلام السياسي واسياده وشيوخه ومن تبعهم من المنافقين الذين تحالفوا معهم من عباد الادلجة والتنظير ورفع الشعارات المدنية .. فلا يغرنكم يا اهل العراق خطاب القوم في العلن فالقوم في السر غير القوم في العلن .. لا يأمركم أحد بان تبايعوا ولا ينهاكم أحد عن المبايعة ولكن عليكم ان تفقهوا ان من يبايع فقد أعطى الشرعية للفساد والفاسدين ولا اظنكم عنهم بغافلين .
العراق لم يتم تأسيسه كدولة وانما رسّمت خارطته من لدن سايكس ـ بيكو كحدود جغرافية تضم فئات قد توارثت الجهل والتجهيل وقد سلّمت لأولي الامر منهم امور دينهم ودنياهم منذ التأسيس والى اليوم .. مقلدون وتابعون ويسلمون لهم وهم صاغرون والاغلبية العظمى من العوام غارقون في نمطية مفرطة من الطقوس والشعائر والاعراف القبلية وسلوك الهمجية وهناك من يعمل بشكل ناعم على ترسيخ هذا الركام والهدم الاجتماعي بينما تتعاظم في المقابل المؤسسات والاستثمارات التي ترسخ تلك النمطية السلوكية وتحويلها الى جاهلية مقدسة يتم فيها صناعة الاصنام وحراسها بحرفية متمرسة .. ولو كانت هناك مؤشرات احصائية لنسب التخلف على مستوى التعليم والتثقيف لرأينا شيئا عجبا .. الديمقراطية هوية فكرية وممارسة سلوكية تعبر عن مستوى الوعي الادراكي والمعرفة النقدية والسلوك المتحضر وحرية التعبير عن الرأي .. السوأل المصيري هو هل يمكن ان تترسخ تلك المفاهيم في مجتمع تزدوج به الهويات الفرعية لتصبح ظواهر عامة تمارس باسم العقيدة والاعراف وما يحدثه العوام من ممارسات بالية بلا رقابة ولا حساب ؟ هل يمكن ان تنجح الديمقراطية حتى ولو بشكل نسبي ؟ .. ستدور السلطة والحكم لمن يرعى القطعان والادوات الجاهلة الغافلة والتي تتفاخر بالمليونيات بدون ان تقدم اي منهج واضح ومبين، لن يستقر العراق وسيبقى وهمُ الدولة قائما ولن ينعم اهل العراق بثرواتهم ما داموا مقيدون في حلقة التقليد ومتوارثة الاسياد والفقهاء والخلفاء والاولياء وانهم ينتظرون تأسيس دولتهم الى اجل غير مسمى .. هذا ما قد سطروه عليكم في كتب موروثة .. فانظروا الى اسيادكم من الاولين والقائمين والاخرين وتبينوا بأنهم لم ولن يقوّموا لكم دولة حتى وان كان بعضهم لبعضٍ ظهيرا .