23 ديسمبر، 2024 1:39 ص

أربعون يوما على غياب الأميرة !

أربعون يوما على غياب الأميرة !

ها قد حلت الذكرى الأربعين، ساعة تدوين هذه الكلمات ..ستكون غَيبة الأميرة ( أمي) قد مر عليها اربعين يوماً .. كنت اهرب من حساب الايام، وافزع لكل من يباغتني بالمواساة والتعزية ، وارد على اتصالات الاصدقاء الهاتفية كما المعتاد بهدوء مبالغ فيه (البقاء لله.. شكرا لكم ) واصمت قليلاً لأتفنن في تغيير مجرى الحديث..
المشكلة اني لم افرغ حتى الأن من العويل، لم يسمع العالم بعد صوت نوحي عليكِ ياأمي.. لم اتيقن حتى الأن انك رحلتي وتركتي ابنتيك افراح ونبراس لوحدهم ..
مازلت اقول لما لم تودعني؟ لما لم تخبرني انها ستغيب مثلما في كل مرة ؟
مازلت لا اصدق كيف حَل يوم الأربعين، وبقية اخواتي واخواني يستعدون لزيارة قبرك في مثواك الاخير!
مازلت اتغافل عن ذكر كلمة الموت .. ياااااااااااااه مااقساها من كلمة وهي ترافق اسمك.. انت لاتموتين ياأمي.. ولن تموتي، لأنك الاميرة..
كنتي تفخرين بأسمك (أميرة) وتقولين لمن يسألك عن سر خلاصك من محنة اختيار الاسماء القديمة المعتادة في زمانك بأن اباك يحب خلفة البنات في البيت ويعتبرهن بركة وخير كبير..

وتبقى تحكي لنا عن طفولتها الصعبة وكيف صبرت لموت امها بزمن مبكر وتحملت اعباء اخوتها ومن ثم حياة اقتصادية صعبة بعد الزواج، كان الشح يلق بظلاله على معظم العوائل البغدادية، لكن حياتهم برغم ذاك كانت الاجمل ، وليس كما هي الان ، تقول امي، ان ابي (رحمه الله) خفف عليها الكثير من تعب الحياة بما يحمله من طيبة وحب لعائلته، كانت الايام وقتها تسير على نسق اجتماعي متألف بطقوس جماعية فتغدو مثل مهرجانات مميزة منظمة وعفوية معاً ، صوم رمضان واستقبال العيد و الطقوس الدينية ، واداء النذور.. مازلت احتفظ بالكثير من صورها وانا ارافق أُمي….
نشأت الاميرة أمي في منطقة الشواكة وباب السِيف ، قلب بغداد النابض بالحياة، تربت على قيمر العرب وكاهي الكرخ الشهير وسمك الشريعة وشربت زبيب الحاج زبالة، لاتفوت فجر ايامها بدون صلاتها المعتادة وفطور الصباح المعد على صوبة البيت العتيقة في الشتاء، ونداءها المعتاد (اكعدوا راح يفوتكم الدوام) .
عاشت امي الاميرة حياتها على نمط فريد من التحمل والصبر، مثل كل الامهات العراقيات في تلك الايام، شاركت والدي الكثير من اعباءه فتولت خياطة ملابسنا وتدبير امور المنزل ومشاركة والدي اعباء مهنته الصعبة ، وعلمت ابنائها الـ(11) من الاولاد والبنات على نحو من الاقتصاد والتدبير، في بيت صغير لكنه يحمل من المحبة والسعادة مايتسع الكون كله ..
ولم تتعب الاميرة ، وتحملت مشاق تربيتنا وقلق حياتنا وحتى صخب اولادنا بعد زواجنا .. وبقيت كما هي .. تفخر بنشاطها وحيويتها .. وتقول لمن يطلب منها ان ترتاح بعد كل تلك السنون ان الحركة بركة وان الراحة تجلب المرض!
مازال صوت أنينك ودعائك يرنان في اذني وانت تجلسين على عتبة الدار تنتظرين اخوتي حتى يعودوا من الجبهة ايام الحروب، كنت ترفضين دخول البيت في غيابهم وتقولين لمن يسألك :”(من يجون اشوفهم اسرع، ماكدر اطب البيت وهمه ماكو)”!
مازلت اذكر طبع صرة اصبعك بين اسنانك وانت تقولين لي عندما يشتد خناق المتشددين في وطني ( ماما استري علينا وبطلي صحافة.. لاتكولين مايغضب الحكام، وترددين ذات الدعاء الماثور لدى البغدادة (اللهم لاحاكم ولاحكيم)..
عمر طويل عشته معك ياماما.. كبرت ومازلت احتاج حضنك واشكو لك في سري وجع ايامي. في ايام سجني ومحنتي كنت أحمد الله الف مرة في كل ساعة لان مرضك في سنواتك الاخيرة حرمك من نعمة الوعي بعالمك الصعب.. شكرت الله انك لاتعرفين ان ابنتك اسيرة في سجنها والا كانت فجيعتي اكبر لو ان غيابي يكون سبب خسارتك الى الأبد ..
ولو اني اعلم ياامي حد اليقين ان قلبك كان يبكي لأجلي.. وتأكدت لما عدت واخبرتني نبراس انك مابطلت انين وصياح طوال تسع ايام من سجني! أي قلب تحملين ايتها الاميرة؟
في ضيقتي تلك كنت اناجي ربي وادعوه وانا اعلم منزلتك عنده: يارب بحق دعاء أمي نجني ,, بحق صلاتها وقيامها وقعودها … ونجوت ..
حتى وانت مريضة ياأمي أنت معي.. ولازال ذات صوتك يرن في اذني عندما تتصلين بي عبر الموبايل (أفرااااااااح شوكت تجين.. تعالي مو ضجت ) ..
ضجت أني ياامي من رحتي وتعبت وكل محاولات عيشي في هذه الدنيا عبث في عبث ..