18 ديسمبر، 2024 7:38 م

أربعون يوماً على خسوف القمر…

أربعون يوماً على خسوف القمر…

السالم المعلّم العالم الذي لا ريب فيه، كان لي شرف صحبته تلميذاً حييًا وخلًا وفيًا.
هو في حياته شعلة نور في ديجور، وهو في وفاته كما ورد في الأثر :
” إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلماءَ حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناسُ روؤساء جهالاً…”
ولد صباح عباس السالم في كرخ بغداد عام 1942 ونُعي إلى دار المُقامة قبل أربعين يوماً من هذا التاريخ، وقد يَجمُل بي هنا نعيه بالذي نعى به عبد الرزاق محيي الدين من قبلُ عميدَ الأدب العربي؛ إذ قال:
يا أيها العَيلمُ الهدّارُ ما ركـــدت رياحه، أو سجت أمواجُهُ الغـُـزُرُ
أتوا سواحلك الدنيا فخامرهــــم أن يركبوا اليمَّ فاجتازوا وما عبروا…
يدٌ صَناعٌ لو امتدت إلى يبــسٍ لأورق العودُ واحلولى له ثمـرُ…
كانت بداية معرفتي بأستاذي الدكتور صباح السالم عام 2009 حينما أتاح لي القدر فرصة أمل نوال شهادة الماجستير في اللغة العربية من جامعة بابل المعطاء ، وكان الفقيد آنذاك أستاذ مادة التحليل الدلالي، وكم تمنيّتُ وسعيتُ ليكون سيدي السالم هو شيخي في حقل الدراسات المقارنة بين العربية والانكليزية نظراً لمعرفته بها فضلاً عن إجادته الفارسية والعبرية لكن تداعيات وفاة زوجته (أم شفق) رحمة الله عليها في ذلك العام حالت دون إتمام تلك الأمنية النفيسة، وذلك السعي الذي كان حثيثا…فآل أمري بعد ذلك إلى أستاذي وشيخي الدكتور رحيم جبر الحسناوي طاب ثراه، وتجاوز المولى الكريم عن ذنبه، وعفا عنه وعن والديه ووالديهما إنه سميع مجيب.
السالم مغبوط ومحسود على ما حباه الله من فضل برهان وفصل بيان فإذا تكلّم جلّى عن نفسه يشهد له بذلك مَن تلمذ على يديه أو مَن شهد مساجلاته في مضامير اللغة والأدب ونحوهما، والمتكلم معدود في جملة أولئك الشهود.
إنّ السالم وأحسبني غيرَ غال فيه قسيمُ أحنف قيسٍ في لِجاج المواقف وزِحام المجالس، وبقدر تعلّق الأمر بقاعة الدرس كان السالم رحمه الله يملأ الرحب هيبة وبهاء يستمد حضورهما من معين شخصية راكزة، ومن نمير موسوعية نامية.
السالم بسيرته العملية يُلقي في روع تلاميذه ومريديه أبدًا كيف يتعلم المتعلم برويّة وأناة وكيف يعلّم المعلّم لوجه العلم من غير تعّمل واصطناع أو تعالٍ واغترار…
وقد وقر في ذهني وقلبي من وحي استطراداته المحكمة في صالة الدرس أن من لا يعرف إلا اللغة لا يعرف اللغة ، ومن لا يعرف إلا الأدب لا يعرف الأدب ، ومن لا يعرف إلا التاريخ لا يعرف التاريخ ومن لا يعرف إلا الفقه لا يعرف الفقه وهكذا…كما وقر في ذهني وقلبي أنّ السرّ وراء الحذق الذي كان سمة فارقةً في جيل الدكتور السالم وأساتذته الكبار يكمن في أنهم كانوا يغترفون من بحار اللغة والأدب بوعاء واحد. ولعلّ انحسار مساحة القدرة على الإبداع والإلهام في كثيرً مِمَن جاؤوا بعد جيله متصل بهذا الفصل المتعسف بين وريدي اللغة والأدب، وعلى هذا وذاك كان للسالم اللغوي الرائع ذوقٌ في الشعر وتشجيع أبوي لقائليه من طلبته على وجه الخصوص ، كيف لا وهو الفتى الذي عكف على تعليم ناشئة بغداد قراءة (الراشدية) طوال سبع عشرة سنةً كاملة في مدارسها الابتدائية قبل أن يُعلّم شبيبة الجامعات فنون العروض والإلقاء ، ومما وقفت عليه من جيّد شعره قوله رضوان الله عليه في بعض وجدانياته :
خلي العتاب شريطُ العمر مزّقه نابُ الزمان فلا ذكرى ولا صورُ
هذا نزيف هوى هامت كواكبه خلف الضباب فضاع الرَّكب والأثرُ
كيف ابتسامي وغول الجهل مبتسمٌ وما بقائي ونور العلم يُحتضَرُ
معلّمٌ أنا وكلُّ الأرض مدرستي في كل منعطفٍ صفٌ ومختبرُ
سأوقد الفجر مصباحاً بنافذتي وأذبح الليل قرباناً لمن حُصِروا
وأطلق الحرفَ طيرًا في الفضا مرحًا يشدو على (الدارميّ) ألحان من صبروا…

تلمذ السالم على يد الدكتور مهدي المخزومي في الماجستير وعلى يد الدكتور محمود فهمي حجازي في الدكتوراه، وكان من قبلُ كاتباً نجيباً وتلميذاً مريداً للعلامة الدكتور محمد مهدي البصير.
عاد السالم من القاهرة حاملاً لأرفع وسام أكاديمي في النحو ، ممسكاً بكناز المصريين لا ينأى بأثقالها وهو يستعجل الخُطا نحو بغداده العظيمة ، لكنه لم يشأ مزاحمة شيوخه فيها وفيهم من أمثال أستاذيه طيبي الذكر إبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي، فليس من سجايا السالم منافسة معلميه الأفذاذ ، ولا هو حاشاه كمبتغي الصيد في عرّيسة الأسد! فكان أن عمل استاذا لمادتي العروض والأدب الجاهلي في جامعتي بغداد والمستنصرية قبل أن تُنقل خدماته في مطالع التسعينيات طوعًا أو كَرهًا إلى جامعة بابل فلا يلبث هناك إلا ساعيًا جاهدًا في أن يكون لقسم اللغة العربية في هذه الجامعة الفتيّة حينها مكانةٌ توازي منزلتها في الدرس اللغوي القديم. وفي بابل الخير أسّس السالم مع سميّه وصنوه في اللغة والأدب المرحوم الأستاذ الدكتور صباح المرزوك قسم الدراسات العليا بواكير عام 1995 كما تنبئ عن ذلك سيرته العلمية.
السالم مولع بالحُسن والجمال لاسيما جمال الحرف العربي وقد خطّ بيده عنوان أطروحته في الدكتوراه ، فزاد بذلك العلم وضوحاً.
للسالم شغف عارم بالتوثيق اليومي سواءً ما يدخل في أدب المذكرات أو تسجيل ما يستحق التسجيل من خواطر وأفكار ترد على باله بين الآونة والأخرى فيستودعها على الفور في دفتر صغيرِ الحجم خفيفه جمِّ النفع جليلِه .
من آثار الدكتور السالم المطبوعة
كتاب: الأبنية الصرفية في ديوان امرئ القيس
وكتاب: عيسى بن عمر الثقفي
وكتاب: أوهام الجواليقي في كتاب المعرّب
وكتاب: أبحاث في فقه اللغة
وله مما هو معدّ للطبع منذ أمد بعيد كتابُ (الصحيح أولى) ومجموعة شعرية.
السالم سالم من آفات العشرة وعاهات الاجتماع تشهد له بذلك أفئدة من عرفهم حتى مَن اختلف معهم. وهو على قلة يساره كبيرُ النفس عزيزُها كريمُ الكفّ غزيرُها، وهو من قبلُ ومن بعدُ رابط الجأش شديد المراس يقدّم المعرفة على كل معروف سواها، فما تزال تروي قرابته أنه حين استلم جثة أخيه، وقد قضى في حرب الثمانينات بين إيران والعراق قرّر أن يُكمل محاضراته في الجامعة قبل أن يقف في مجلس عزاء أخيه …