ابن عربي/ العارف من يرى الحق في كل شيء، بل في كل شيء، بل يراه عين كل شيء.
بالبدء أقول لا يمكن نزع الدين مَن الطّبيعة النفسانية للبشر.
تشكّل الأديان حالة جدلية علَى مستوى التّفكير، والصراعات الأيدلوجية، دائمًا تحظى بحالة هيجان تفسيري، أو تأويلي، أو صدّام مسلح، أو دخولها بخصومة مع الأفكار المختلفة عنها، وهذه الحقيقة مُطلقة الثبات، سواء على الأديان الوضعية، أو التوحيدية (اليهوديّة، المسيحيّة، الإسلام)، فضلاً عَن الخصومة الفكريّة، أو الجدلية بداخل الأديان نفسَها.
حاولت الفلسفة، أن تُعطي انطباعات تفسيرية عَن الإله والوجود، كَمَا عَن الخلق، وأيضا عَن الإنسان (قُبْح، جمال، إرادة أدارك حاجة… الخ). وعلاقاته بالأديان أو مع ذاته ووجوده، بين ناكرٍ ومؤيد، ومستنتج، أو معضد لم تقدّم الفلسفة قالباً متفقٌ عليْه، لَا في عصورها الوسطى، وَلا في العصر الحديثِ.
النظريات الَتِي طمحت ولازالت تُحاول إيجاد إلية منظّمة منطقيّة لتفسير نشأة الكون وما تنتجه من دلالات تنعكس علَى طبيعة الإيمان ويأتي الدين واقعاً من ضمن هذه النظريات، فالجدلية قائمة، وَلا زالَت قائمة في الاختلاف حول تبنّي حقيقةً متفق عليها، ليست خاضعةٌ لدليل بديهي ,لست أتكلم هنا حول الأحقية والخطأ والصواب ,أتكلم حول ما أتفق عليْه، وما أختلف عليه فنظريات أو فرضيات نشوء الكون (الحَيَاة، الإنسان، القيّم، مُخرجات ومبادئ الثواب والعقاب والوحي… الح هِي: متبنيات لم تُثبت مرجعيتها لتفسيرٍ واحدٍ متفقٌ عليْه).ولازالت دينامية تلك الحركة في تكامل معقد نحو إيجاد مخرجات اكثر عقلانية في التفسير.
العلم؛ هُو ظهير ساند ومنسجم مَع طروحات أي رأي يُحاول إعطاء دليلاً علَى صدّق نظريته، أو فرضيته، ما أقترب منْهَا مَن إثبات علمي يَكُون هُو أكثر قوةً في ترشيح رأيه نحو القبول والأمر أيضا غير مطلق.
الغيبَ والإيمان به أو بتعبير أكثر دقّة (الميتافيزيقيا) تشكّل حالة فارقة، بين آراء الفلاسفة الذين يعتمدون الأدلة الماديّة المستندة إلى حقائق علمية، وبيّن فلاسفة ما وَرَاء الطّبيعة، والحال نفسَه مَع متبنين أي نظرية.
علَى نحو أكثر دقّة وشمولية أوسع. ومن بين تِلْك النظريات هُو التّفسير المتولد من الماديّة (وما يُنتج عَنْه مَن نظريّات)، والتفسيرات المعتمدة علَى (الماورائي) وما يُنتج منه مَن ديانات، سواءً الوضعية منْهَا أو التوحيدية.
بين كلّ تِلْك الإحباطات، والتعدديات، والتفسيرات لا يوجد شَيْء متفقٌ عليه, فالديانات أيضا تندرج ضمن تِلْك الفرضيات التأويلية والنظريات القابلة للنقض، أو النقد، كما هو حال الإثباتات الماديّة والوجودية، وكذلك وسائلها في البحث، ومخرجاتها، مثلا في الديانة التوحدية الثالثة الإسلام كمثال عن التشيع والتسنن يقول الدكتور عبد الكريم سروش ((أن التشيّع ليس ديناً في مقابل الإسلام، بل إنّ التشيّع والتسنّن قراءتان عن الإسلام، إذ كان هناك من الصحابة من فهموا كلام النبي على نحو، فكوّنوا أقلّيّة عرفت باسم التشيّع. وكان هناك جماعة أخرى فهمت كلام النبي على نحو آخر، فعرفت بالتسنُّن ((بينما يخالفه في ذلك المفكر الشيعي محمد باقر الصدر في تفسير لجذرانية التشيع منذ بزوغ فجر الإسلام على محمد, ليأتي دكتور سروش مرة أخرى في رأيه بأكثر بعدا ليقول : ((لا التشيّع هو الإسلام الخالص ، ولا التسنن ، ولا الأشعرية هي الحق المطلق ، ولا الاعتزال ، لا الفقه المالكي ، ولا الفقه الجعفري ، ولا تفسير الفخر الرازي ولا تفسير الطبطبائي ، لا الزيدية ، ولا الوهابية ، لا كافة المسلمين في معرفة الله وعبادته خالون من الشرك ، ولا قاطبة المسيحيين إدراكهم الديني خالٍ منه ، كلا بل لقد ملأت الدنيا الهويات غير الخالصة ، فلم يتربع الحق في جهة من الجهات دون أخرى لتكون باطلاً محضاً ,وعندما نذعن لهذا الأمر فسوف يتسنى لنا هضم الكثرة بشكل أفضل(( .
قوة النظرية، ووجودها وتأثيرها هي خاضعة، لمناطق النّفوذ، والبيئة الغالبة، فضلا عَن طبيعة المؤثرات والمحرضات الفكريّة، أو الإيحائية. يبقى كل هَذَا هو طوفان نحو كَعبة المعنى الجوهري الأصيل، الّذي لم نحقق لَه ((كَيْف أو تفسير أو حدّ))، كلّ تِلْك نسخه وفروعه وتجلياته المنطقية، إذ الوجودية الماديّة وكل ما يتَّبع لها، وكل ما نتج منْهَا هي بَنَت المعنَى، وكذلك الأديان وما أنتجته من فلسفات وتفسيرات، أيضا فُرُوع لمعنى لا نعرّف كنههُ، الجميع عبارة عَن نظريّات أو فرضيات أما الحقيقة، فهي في صُلب ذَلِك المعنَى الّذي نجهله، فلا العلم أستطاع أن يُعطي تفسيراً كاملاً وشاملاً عَنْه، ولا الفلاسفة بمعيّة العلم، وَلا الديانات، وخاصةً التوحيدية منْهَا. استذكر عبارة لابن عربي ((الطريق إلى الحقيقة تتعدد بتعدد السالكين)).
كما وجدت رأيي على نحو الصدفة بالبحث يتطابق مع جون هيك اللاهوتي البريطاني في نظريته التعددية الدينية: الذي يقول فيها:
((لما أن الحقيقة متعددة لا يملكها منهج بذاته أو دين بذاته، كما قال كانط))، فأنها يمكن أن تكون موزعة على كل الأديان، كما انه ذهب إلى أن الوحي الذي عن طريقه جميع الأديان لا يتعدى أن يكون في كل حالاته تجارب شخصية روحية، يمكن أن يمر بها كل أنسان تتوفر فيه بعض الشروط، وعلى هذا فان الوحي ممكن أن يتعدد بتعدد التجارب، ومن ثم ممكن أن تتعدد مصادر الحقيقة بتعدد الأيمان واعتبر أن الشرائع كلها نسبية)).
في موضوع الوحي، يقترب كثيرا أو يبتعد قليلا، من هذا الرأي المفكر الهندي السيد احمد خان، ((صاحب الإرهاصات الأولى في علم الكلام الجديد حسب تعبير دكتور عبد الجبار الرفاعي)). حيث كان يقول: احمد خان في الوحي، ((أن نزول الوحي على النبي كان بالمعنى وليس باللفظ، أي أن المضمون إلهي، أما اللفظ بشري، بمعني أن محمد هو من صاغ مضمون الوحي الإلهي بألفاظ عربية هي القران. كما هو الراي الذي نسبه جلال الدين السيوطي في الإتقان في علوم القران، لبعض المتقدمين من علماء الإسلام))
ومن هذه النظرية أي نظرية جون هيك، ينطلق الدكتور عبد الكريم سروش ويؤسس عليها ليقول ((إن المجتمع المتعدد هو المجتمع غير المتأدلج، أي الذي لا يوجد فيه تفسير رسمي، ومفسرون رسميون. وهو مجتمع قائم على عقل تعددي، لا على طائفة أحادية، يبدأ هذا المجتمع حينما يعرف الجميع فيه أن الأصل في عالم الطبيعة والاجتماع هو الكثرة لا الوحدة، محاولة لتوفير نموذج واحد للحياة، والدين، واللغة، والثقافة، والأخلاق، والعادات والأداب الإنسانية، يفسّر الإيمان الديني بالحالة الروحية وعدم كونه من مقولة الأفكار الذهنية، فلذلك يرى أن كل إيمان هو من جنس واحد، بحيث أن إيمان اليهودي باليهودية، والهندوسي بالهندوسية، والمسيحي بالمسيحية، وإيمان المسلم بالإسلام هما من جنس واحد ولا فرق بينهما. فالإسلام وكأي دينٍ آخر، هو إسلام بذاتيته لا بعرضيته، والمُسلم الحقيقي هو الذي يعتقد بالذاتيات فقط))
خُلاصة القَوْل؛
أن كلّ شَيْء ما هُو إلا نظرية أو فرضية، ومن ضَمَنها نظرية الأديان أو الماديّة.
تتوسع تِلْك النظريات في اجتهاداتها إلى حُدُود اللامعقول والخرافة مرةً، وتتعقلن في بعض حالاتها إلى حُدُود المنطق المُفترض مرة أخرى، بعضُ منْهَا معْقول بمعقولية دلالاتها، وبعضٌ منْهَا مرفوض نتيجة لردها، أو نقصها، أو عدم حجّة دلالاتها بصورةٍ علمية أو عقليّة. أو على الأقل تجديدية والأمر من النسبيّة ستخضع لَه كلّ النظريات وما يقترن بها من فرضيات، حتّى الدينيّة منْهَا، في تبني رؤية الخلق، والثواب والعقاب. يخضع لذلك الماديّة الوجودية علَى نحو أولى.
لو حصلنا على تجديد في المفاهيم، وتوأمة تلك النظريات في إطار واحد قد ينسجم من الناحية المفاهيمية والعقلية والمنطقية، واستحصلنا على مقاربات بين الوجودية والنكران، وبين الأيمان والغيب، لحصلنا على نتيجة مفادها أن النكران غير معتبر، والأيمان بالشكل الحالي أيضا ضعيف، والحقيقة تكمن في صراع المفاهيم لا أكثر، في حين أنها متوفرة جدا في المعنى الجوهري الذي خرجت منه كل تلك النظريات التي هي نسخ مجتزئة، الحقيقة المطلقة لكل شيء لا زلنا نجهلها.