مما لا شك فيه أن المنعطفات الكبرى فى التأريخ لم تحصل بعفويه أو انعكاس لرغبة شخص أو مجموعة اشخاص رغبوا فى تغيير المسار
التأريخى بسهوله لاى شعب من الشعوب ، بل أجمع العلماء والمؤرخون ورجال الفكر أن الشروط التأريخيه هى العامل الاساسى فى
التحولات والمسارات النوعيه لاى شعب رغم انهم لم يغفلوا دور الفرد فى مثل هذا التحول النوعى الحاسم ، وأذا كانت منطقتنا العربيه تعيش أجواء ما أطلق عليه بالربيع العربى اليوم ، فمما لاشك فيه كذلك أن المواقف أزاء هذا الحراك التأريخى لم تكن متطابقه ولا ينبغى
لنا ان نتوقع أن هذا المفصل التأريخى فى حياة الشعوب العربيه اليوم يحظى برضا وقبول متساو من كل الاطراف على أختلاف مشاربها
وهذه نتيجه طبيعيه حسب رأى الخبراء والسياسيين .
ومما أثار اهتمامنا ما نشرته جريدة الشرق الاوسط يوم الاحد المصادف خلال الفتره المنصرمه نقلا عن مجلة – بروفايل – النمساويه فى
مقابله مع الشاعر والمفكر العربى أدونيس حول طبيعة التحولات النوعيه الحاصله فى المنطقه وموقف المثقفين على اختلاف مشاربهم
من هذا الحراك الذى لا بد وأن يترك اثاره على المسار التأريخى لهذه الشعوب شئنا ام ابينا بأعتباره المفكر الابرز اليوم على المستوى
الثقافى فى هذه المرحله التى نمر بها ، وكونه من الرموز المهمه فى الساحه الثقافيه العربيه . ومن خلال هذا المدخل نستطيع القول
أن مثقفينا اليوم تقع على عاتقهم مسؤولية اخذ زمام المبادره والسير بأتجاه هذا الحراك الرديكالى الشامل والغير مسبوق بهذا المستوى فى منطقتنا العربيه . وقد تتساءل قطاعات كثيره من شعوبنا عن حجم الدور الذى لعبه المثقف وحجم أسهاماته وتضحياته
لانه الاولى بالنهضه من سواه بعد ان يرفع صوته ويتصدر الصفوف وهذا ما ينبغى ان نراه ونلمسه فى مثل هذه اللحظات التأريخيه النادره كما فعلها لوركا وأراغون ونيرودا .
لقد زعم أدونيس انه لايمكن له ان يدعم المعارضه ضد الرئيس بشار الاسد معتبرا ان اى تدخل عسكرى غربى فى سوريا ستكون
له نفس عواقب غزو العراق حيث تذكر الصحيفه أنه أعطى صوره متفائله للربيع العربى بداية الثورات لكنه تحول الى انتقادها مع وصول
الاسلاميين الى الحكم فى تونس ومصر اثر الانتخابات الاخيره . كل هذا يحتاج الى وقفه جاده لمناقشة هذا الامر الذى يمس كل مفاصل حياتنا . أذن من هو الاكثر جداره من المثقف عندما تقتظى الضروره ليؤشر على مكامن الخلل فى هذا الحراك المصيرى ؟ حرى بنا
أذن وقبل كل شىء مناقشة موضوعة لماذا فاز الاسلاميون بعمق وحياديه ، ووضع اليد على الاسباب بدل الهروب الى الامام حيث يقول أدونيس فى معرض حديثه – لاتوجد اسلامويه معتدله ولا يمكن للثورات أن تنجح الا اذا قامت على أسس علمانيه وشبه الاخوان الفائزين بالفاشست . هذا المنعطف المصيرى الكبير فى حياة شعوب المنطقه يحتاج الى حالة استيعاب صعبه جدا من قبل المثقف
الثاقب النظر الذى وصفوه بالشخص القادر على قبول الحقيقه مهما كانت النتائج ، ونستطيع ان نقول من الجانب الاخر أن المثقف الذى
لم يقرأ التأريخ بعمق ودرايه يضيع فى دهاليز السياسه ، ذلك لان حدثا بهذا الحجم ينبغى ان لايجعل البعض منا يحلق فى الخيال لان من المعروف أن الشرط التأريخى لا يسمح مطلقا بحرق المراحل مثلما يرغب البعض ، وأذا نظرنا بأيجاز الى الفترات التأريخيه القريبه لمنطقتنا العربيه منذ الهيمنه العثمانيه التى دامت ما يقرب الاربعة قرون حيث تذكر احدى الوقائع التأريخيه أن احد الساسه البريطانيين الكبار
زار بغداد قبل الحرب العالميه الاولى ، وأطلع ذلك الزائر على الواقع المزرى والتخلف الهائل والحاله البائسه التى يعيشها العراقيون مما
دفعه أن يبدى ملاحظاته للوالى العثمانى الى ضرورة الالتفات الى أحوال الناس والعمل على توفير حد ادنى من الرعايه لهم فكان رد
هذا الوالى المتغطرس ( مالك وهؤلاء الحمير ) .
ومنذ تلك الايام المزريه وحتى مخاضات الربيع العربى لم تتنفس شعوبنا الصعداء ولم تعرف غير الخوف ولم تذق طعم الحريه ، غارقة بالجهل
والتخلف الذى كانت كل الانظمه تحرص على ديمومته لانه يشكل لها العامل الاساسى الذى يتيح لها الفرصه المناسبه للامساك برقاب الناس ، وبعد ان هبت عواصف التغيير وبدأت التحولات الاجتماعيه والطبقيه تفعل فعلها ، ومن خلال هذا الحراك العاصف ينبرى
البعض من المثقفين ليقولوا لنا – لايمكن لهذه الثورات ان تنجح ألا أذا قامت على أسس علمانيه على حد تعبير أدونيس الذى تناسى ماكان يردده على لسان فلاسفة اليونان ( لا يتعلم السباحه من لم يدخل الى النهر ) . هذه الجماهير التى نفذ صبرها والتى ثارت ضد حكامها واستطاعت بأرادتها وتضحياتها أن تغير المسارات التأريخيه للانظمه الحاكمه شئنا ام ابينا ، وأذا كان مستوى الوعى لدى هذه الجماهير لم يأهلها بالقدر الكافى نتيجة لضروفها الحياتيه والمعاشيه الصعبه أن تشكل أحزابها وتنشىء أيديولوجياتها ذات المناهج المناسبه لشروط المرحله التأريخيه التى لايمكن تجاوزها بأى شكل من الاشكال . عند هذه النقطه علينا ان لا نفزع او تهزنا المفاجأه من وصول قوى كانت ولا زالت تمنى الناس بالمن والسلوى . أذن ما علينا والحالة هذه الا أن نتمسك بقوه باللعبه الديقراطيه ولا نسمح لاحد بعبورها ولا نعطى فرصه لحرف مساراتها ذلك لان طبيعة هذه التحولات السريعه فى بلداننا العربيه تحتاج منا الى وعى عملى لان
السياسه بحد ذاتها هى وعى وبصيره وهى فى الوقت نفسه علم لادارة مفردات الصراع الاجتماعى حيث اكدت الماركسيه ( أن
الناس لاتحكمهم فى المقام الاول قناعاتهم السياسيه أو الدينيه وأنما حاجاتهم الماديه ) وبما ان الحاجه الاكثر الحاحا اليوم هى تثبيت اسس الديمقراطيه والسير من خلالها بخطوات رصينه ، هذا الشرط وحده كفيل حتى لو يأخذ حيزا زمنيا معينا أن نصل من خلاله
الى الهدف المبتغى على ما أعتقد .