أدناه مقامة البوم

أدناه مقامة البوم

/ع الشكر مقامة الجزع : (( الى سوركول الجاف )) .

ها انت تكررينها , توق , وأحتراق , وشوق , ومرارة جروح , أهو أستذكار أم جزع ياأختاه ؟

قال ابن قتيبة : (( وأحسنُ مَن ابتدأ مرثيةً , أوسُ بن حجر, في قوله : ( أيتها النفسُ أَجْملي جزعَا * إنّ الذي تكرهين قد وقعَا ) , والبيت على عكس ما قد يبدو للناظر من الوهلة الأولى , لا يَنْهَى عن الحزن على فَقْدِ الأعزَّاء , ولو كان الأمر كذلك , لَمَا كتب الشاعر مرثيتَه أصلاً , إنما هو يَنْهَى عن الجزع , والْجَزَعُ : نَقِيضُ الصَّبْرِ , وَهُوَ انْقِطَاعُ الْمُنَّه عَنْ حَمْلِ مَا نَزَلَ , و كان ابن المقفع يقول : (( إذا نزل بك أمر مهم فانظر فإن كان لك فيه حيلة , فلا تعجز, وإن كان مما حيلة فيه فلا تجزع )) , وقد علَّق صلاح الدين الصفدي على قول ابن المقفع , قائلاً : (( وما أحسن قوله : (تعجز, وتجزع) , وهذا الذي يسمى قلب البعض , وهو معدود عند أرباب البديع من الجناس , كقولك : رقيبٌ قريب )) .

يتساقط مطر نصك على شراشف الروح , تسكن روح على ضفة لا تعرفها , لتعبر عن حالة من عدم الاستقرار والتشوش في النفس , حيث تكون الروح عالقة في مكان غير مألوف أو غير مريح , فتستجمع مدخرات الروح برغبة بكاء دافئ , وأنت برمزية نصك تسعين إلى تجميع قوى النفس العاطفية , بعد حالة من الألم أو الحزن , فأنتبهي لأن آلهة القوة تعانق أسراب المنايا , كدير مهجور يلج فيها الخراب في تشبيه لحالة النفس بالخراب والضياع , وكأن الروح تجد نفسها في مكان مهجور من العواطف أو الأمل , وأنت جامحة بالأحلام التي تعبر عن الحلم والتوق لتحقيق ما ترغبين ,فتتسلقين شرفات الروح في محاولة للوصول إلى أعمق نقاطها , علك تفهميها بشكل أعمق.

في قول امرئ القيس : (( قفـــا نبـــكِ مـــن ذكــــرى حبيـــب ومنــــزل بسقــــط اللــوى بيـــن الدخــــول فحومــــلِ )) , نجد النداء للحظتين , لحظة الحاضر التي تقف عند الأطلال, ولحظة الماضي حيث الذكرى حيّة , إنها لحظة تتحد فيها الذات مع ما كان , لتعيد تشكيل الحاضر عبر التأمل والحنين , ونجد هنا ملامح البداية التي تصبغها النوستالوجيا وتوق الماضي , حيث يطالب الشاعر رفاقه بالتوقف والبكاء , كأنما الزمن نفسه يستدعي شهادة البشر على فناء آثاره , هنا، يصبح الحنين أداة فلسفية للتأمل في الزوال , حيث تلتقي الحياة بالشعر في لحظة مفارقة بين الحاضر والماضي , هل تتناغمين في نصك مع ملك العرب الذي أبتدأ به الشعر كما يقولون ؟

أتذكرك عندما أقرأ قصيدة  النابغة , حيث يعتبر أغربُ من ابتدأ قصيدة في قوله : (( كليني لهمٍّ , يا أميمةُ , ناصبِ وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكبِ )) , فأقول : ليس أبطأ من وقتِ المكلوم , مهما توقعت وارتجف انتظارك العاجز, لن يكون احد في العالم كله قادر على وصف تلك اللحظة , لحظة الحدوث , كأنه جبل يهتز داخلك , كذلك هو, بل أشد وأقسى , ويطول الطريق وانت لا تقوين على تحمله , حبيبك ينتظرك يا هذه , أقسم الا يرحل الا وقد رآك ايتها الزاهدة البائسة بهذا الحب , ولقد حانت اللحظة التي كنت تخشيها ,ستجديه وفياً كما كان , يطالعك بنظرة لا تخيب , يعاتبك : لم اطلت الغيبة فاني افتقدك؟ ما علم أنه يرافقك اينما حللت , وان الصمت المنهزم كان يخفي دوماً تحته براكين وقد حان قطافها , وما علم ان القلب الهزيل لم يعد قادراً على تحمل هذا الوجع اللعين , والفراق الطويل , الذي يلوح له .

آهٍ على ايام ليست كالايام , وفي لحظة تغادر منزلك الروح , ولا تترك لك سوى غصّة الفراق , ذكرى تلو ذكرى , ماذا يتبقى غير الجدران تحكي لوعتك , تقّص ألمك , تستعيد شريط الحياة يوم تلون بالحضور واسوّد يوم فقدك , وخلت الاماكن ظاهراً , لكن كل قطعة منها لا تتركك أهدأ اذ تستحضر طيفه , وتذكرك برحيله , تخافين دوماً من الاعتياد الذي يغتال الشعور, ولكن عجباً هل يعتاد مكلوم جرحه ويعايش نزفه وانطفاءه المرير؟ عجيب فقيدك , انفاسه التي كانت تملأ المكان ما زلت تجدينها , رائحته التي تعطرت بها يوماً , تغمر سمائك ,  كأنه ما غاب , كأنه سافر الى بلدٍ بعيد , وأنت باقية ما حييت تنتظرينه , من اين تاتي كل هذه الدموع , من نبع الالم؟ من احتباس المشاعر الذي انكسرت سدوده , ولم تستطيعين مقاومته؟ من تفاهة دنيا نراها خالدة فاذا بها كما كان حبيبك يقول لك مبتسماً حتى وهو يجاهد صوته ليظهر: ترهات .

القلب المنطفىء اضناه الشوق , اذ تحاصره الذكرى من كل الجهات , وتذكرك به كل الأشياء, الكلمات , الضحكات , الصور , الاماكن , الف الف من الايام ,تسمعين كلمة بسيطة مثل (معقولة) فترتعشين , وتهزك هزاً , وتكاد المصيبة تعيد صياغتك , فلا تخجلين من اظهار ضعفك , وتجدين نفسك تقول في حزم وعزم : لن اخجل من تلك الدموع فهي اليوم تذرف عليه , وهل هناك مثله ؟  من مثل الشمس دفأ , والقمر رقة والحب نبضاً ؟  من مثل ابتسامة حبيبي ؟  نظمت وقتي على توقيت حبه , فالموعد المغرب كان , وها هو الموعد ينتهي ويغيب الصوت ويبقى اتصالي دون جواب , وتقولين لنفسك متعجبتاً : ماذا دهاك؟ اتخاطبين تراباً , تقبلين حجراً , تشتاقين ارضاً ؟  فتجيبيها معاتبة , وهل تلك مثل غيرها؟اليس ثمنها ومعناها من تلك الأجساد التي تضم , والحياة التي تكمن؟  لذا لا ابالي منطقها الهزيل , وتمضين تحدثينا عن وجع كبير وشوق عظيم , ودعاء لا ينقطع , وحبيبة ما تزال تبكيه , وهو يستمع بشوق ولا تشكين , فأنت على العهد للذي كان سيبقى حبيبك , ثم تلملمين ما تبقى منّك وتودعيه قائلة : (( انتظرني كالعادة لن اتأخر عليك وسابقى اسأل عنك واتفقدك )) .