18 ديسمبر، 2024 1:40 م

أخـــــلاق حميــــدة-قصة قصيرة

أخـــــلاق حميــــدة-قصة قصيرة

وحيداً تحت عمود الكهرباء الثالث، في المرة الأولى أوقفوه ساعة تحت عمود في الشارع خلف بيتهم، عادوا ونادوه بشتيمة واقتادوه إلى شارع آخر ليوقفوه تحت عمود آخر، غابوا قرابة الساعة ونصف وعادوا، بالطقوس نفسها انتقل إلى هنا، الليل تجاوز منتصفه. لماذا تكلف البادية نفسها وتضيء الشوارع؟ لا مشاة ولا سيارات، ربما يأمرهم الجيش بذلك حتى لا يستتر الذين يكتبون الشعارات بظلام الليل. لكنه يستفيد من الظلام في وضعه هذا، للظلام وحشته الخاصة.

البيوت مطفأة الأنوار، ألم يستيقظ أهلها على طرقات الجنود على بوابات الحارة المجاورة؟ هل يقفون وراء الستائر المسدلة يسترقون النظر إلى الشارع انتظاراً للجنود الذين يأتون عادة على أقدامهم بعد أن يتركوا سياراتهم في مكان قريب حتى يكون عنصر المفاجأة إلى جانبهم؟ سلّى نفسه بفكرة ايجابية “عنصر المفاجأة لم يعد ممكناً في أغلب الحالات، الأمهات والآباء ينامون وآذانهم في كامل يقظتها، نقطة حراسة دائمة العمل، جهاز إنذار مبكر، والشباب ينامون مطمئنين بعد تعب النهار”.

القمر هلالاً، أواخر الشهر القمري، عيد الأضحى يقترب، هل سيأخذونك إلى المعتقل؟ هل سيعيّد الأولاد بدونك؟ ها أنت وحيداً تحت عمود النور الكهربائي تقلب أفكارك وتنقّل رجليك، لو حركت رجليك في المشي بدلاً من المراوحة في المكان نفسه لوصلت البيت في أقل من خمس دقائق وجلست مع الزوجة والأولاد وشقيقك الأصغر والوالد العجوز … الوالد العجوز، ماذا يفعل الآن؟ يستنزل كل رضا الله عليك ويقرأ السور القرآنية التي ستحفظك من كل شر وسوء؟ مؤكد أنه ينتظر الصباح بفارغ الصبر ليهرع إلى الحكم العسكري ليسأل عنك، سيحتج، إن وجد من يسمعه: لماذا أخذتموه؟ هذا أب لخمسة أطفال ولا يتدخل في شيء، ماذا تريدون منه؟ تأخذون أخاه الذي يتحدث في السياسة، نقول: آمين، يقارعكم وتقارعونه، أما هذا فماذا تريدون منه؟

“يا والدي، لو تدري أنهم تركوني هنا من غير حارس ومن غير قيد، مجرد أخذوا الهوية وقالوا: لا تغادر المكان، سنعود إليك. يا والدي الذي يحدثني دائماً عن تجاربه مع الأتراك والانجليز والأردنيين، هل رأيت تعسفاً وعنجهية مثل هذه؟ مجرد قف هنا، لست مربوطاً إلى هذا العمود، لكن خوفي من الانتقام يربطني وهم يعرفون ذلك، لو كنت شاباً يقارعهم في كل حارة وزقاق ولديه الاستعداد لأن يصبح مطارداً لما تركوني لحظة دون حراسة أو قيد. أما أنا والد الخمسة فماذا أستطيع أن أفعل؟ هل أعود إلى البيت وليفعلوا ما يريدون؟ سيأتون إلى البيت، سيحطمون، سيضربون الصغير قبل الكبير، سيضربونني أمام الأولاد، ستثور ثائرة أخي الشاب المفعم بالحيوية، سيصطدم معهم، لن يرحموه، ألا يكفي أنهم لم يتعرفوا عليه عندما دخلوا البيت؟ أخذوا هويته، لم يتصلوا ليسألوا عنه، لم “يمخشروا” على رأي الشباب”.

اضحك في سرك، إن ضحكت علناً ربما يراك شخص ما من وراء الستائر المسدلة فيدعو الله أن يعوض على أهلك، هل سيدري أنك تضحك لأن الشباب عربوا كلمة “مخشير”؟ أخضعوها للصرف العربي، اشتقوا منها مخشر، يمخشر، فهو مُمخشِر وهو مُمخشَر عليه، أي تحدث بـ “المخشير” أي جهاز اللاسلكي، وهذا جهاز حضاري خدم المحتل الحضاري. يأخذون بطاقة هوية الشاب، يمررها الضابط إلى الجندي حامل الجهاز، يعمل الجهاز فيصبح الشاب واقفاً على سور الأعراف بين الجنة والنار، بين الحرية والزنزانة، إما أن يقول الجهاز “خذوه” فتبدأ سلسلة من الأفعال المتتابعة المعروفة، اليدان خلف الظهر، القيد البلاستيكي، العصبة على العينين، السيارة التي تصل، فيصبح الشاب كرة ملقاة على أرض السيارة وتبدأ ركلات الجنود مترافقة مع قهقهاتهم وشتائمهم … أو يقول الجهاز اتركوه فيتركوه.

تذكر ابنته، كلماتها تشاركه وحدته الآن، حدثته أكثر من مرة عمّا رأت، وفي كل مرة كانت تركز على نفس البداية، “بابا، عمري ما بنسى المنظر”، أوقفوا ثلاثة شباب في الشارع، تحدثوا في “المخشير”، تركوا اثنين، أخذوا الثالث، وصفت تقييد يديه وصفاً دقيقاً، لم تنسَ حركة، هذه البنت ستصبح فنانة يوماً ما، ليس طبيعياً أن ينتبه طفل السابعة لهذه التفاصيل، في كل مرة لا تكتفي بالوصف، تمثل بيديها ثم تطلب منه أن يدير ظهره ويضع يديه خلف الظهر، تكون اليدان متوازيتان فتغير وضعهما لتتقاطعا عند الرسغين، ثم تقوم بحركة تمثل وضع القيد البلاستيكي، ولا تنسى أن تقول بأنهم شدوه على آخره. أغلب الظن أنها نائمة الآن، أجبر الأطفال على النوم مبكراً ولم يسمح لها أن تشاهد المسلسل التلفزيوني، لو لم يجبرها على النوم لرأت ما حدث.

طرقوا طرقة ففتح الشباك وقال أنه نازل حالاً ليفتح البوابة، كان يتناول عشاءه متأخراً، دخل الجنود البيت، سألوا عن سكان الطابق، قال لهم إن الأولاد نائمون، صعدوا إلى الطابق الأعلى برفقة والده الذي كان قد نزل إليهم هو الآخر، أراد أن يصعد معهم فأمروه بالبقاء، عاد إلى عشائه ليشغل نفسه بشيء ما وعيناه على الدرج النازل من الطابق الأعلى، سينزلون ومعهم أخوه، بعد دقائق عادوا لوحدهم، انتبهوا لوجوده، ناداه أحدهم، طلب هويته وأمره أن يلحق، سألهم أن يغير بيجامته، لم يسمحوا … وها هو يقف تحت العمود الثالث على وشك الانفجار ضاحكاً أو باكياً من الغيظ الذي يتراكم في داخله كما يتراكم الهواء في الكرة عند نفخها … لو يعرف ما الذي يريدونه، ما الذي فعله حتى يصل إلى هذا الوضع المهين، المحيّر، المقلق؟ ماذا لو نسوه وذهبوا وبقي هنا إلى الصباح؟ سيقول الناس عنه أنه مجنون، ليتهم قيدوه، ليتهم أجبروه على عمل شيء كمسح الشعارات عن الجدران ليفهم الناس سبب وقوفه، كل شيء إلاّ هذه الوقفة المهينة.

هل ترى أي قيد يقيدني يا والدي؟ ليتني شاباً لا وراءه ولا أمامه سوى مقارعتهم، لا محمد ولا فاطمة كما يقولون، سأصبح مطارداً، أمشي في الأزقة وأذهب إلى الجبل، أدق على أبواب البيوت فيفتحون ويعرفون مرادي دون أن أتحدث، يستضيفونني وسيسهرون على راحتي وحمايتي.

تذكر الموضوع، هل اعتقلوه لأنه استضاف أحد الشباب المطلوبين؟ بالتأكيد لا يعرفون شيئاً عن ذلك، الشاب لم يعتقل، وإن اعتقل لا يعقل أن يتفوه بشيء من هذا القبيل، استبعد الفكرة، ولكن لماذا؟ لماذا؟

هل تذكر يا والدي تلك القصة عن الظلم الذي وصل قمته، على رأيك “وصلت رأس السلم”؟ حالي كحال ذلك الشاب الذي لم يجرؤ على قطع عرق نبات البطيخ الذي قيّد به رغم أن عافيته تمكنه من هدّ الجبل، وأنا لا أستطيع قطع خيط العنكبوت الذي يقيدني، حبل كلمة الضابط. ذلك الشاب بعثه الإقطاعي من سهل القرية، عدة كيلومترات، قال له لا تحلّ يديك إلا بعد أن تصل بيتي وتسلم نفسك، وصل البيت، استقبلته أم الإقطاعي التي استكبرت الظلم، قالت للبنائين الذين كانوا يبنون بيتاً جديداً للإقطاعي: “انزلوا وصلت رأس السلم”، اعتقدت أن البناء سينهار لأن الظلم قد بلغ مداه. وأنا أوقفوني هنا وقالوا “لا تغادر”.

هذه المرة زادت غيبتهم عن الساعتين، بدأت نفسه تراوده بالذهاب ولتنطبق السماء على الأرض. قبل أن تنمو الفكرة في ذهنه وصل إلى مسمعه عبر هدوء الليل صوت جهاز اللاسلكي من خلف الزاوية القريبة ثم ظهر الجنود، اقتربوا باتجاهه اطمأن أنهم لم ينسوه، ناداه أحد الجنود، كان الجندي يحمل بطاقة هويته بيده، سأله إن كان يعرف العبرية فأجاب بالنفي، تقدم جندي آخر، يبدو أنهم أكثرهم معرفة بالعربية، تحدث الضابط بحديث طويل ترجمه الجندي بلغة مكسرة، محاضرة طويلة حول الأخلاق والآداب، أعطوه هويته وأخلوا سبيله. مضى نحو البيت والكرة المنفوخة في داخله تستقبل هواء جديداً كلما استعاد كلمات الجندي.

“هذا ضابط كبير، كبير، كبير، يستطيع أن يسجنك، يستطيع أن يخرب بيتك، أنت رجل غير مؤدب، كيف ستربي أولادك وأنت لا تعرف الأخلاق؟ هل تتحدانا؟ هل تريد أن تظهر أنك لا تخاف منّا؟ ماذا تعني بجلوسك والاستمرار بالأكل كأننا لم ندخل البيت؟ أنت لست ولداً صغيراً، عندك خمسة أولاد، مكتوب في هويتك، هذه المرة سنتركك تمشي، هذا درس صغير، سنعود إلى بيتكم في مرة قادمة، سنرى كيف تتصرف، نحن نتذكر البيت جيداً، خذ هويتك وامش من هنا”.