18 ديسمبر، 2024 6:39 م

أخبار العراق: أمستردام تنقذ حيواناً والنجف تقتل إنساناً

أخبار العراق: أمستردام تنقذ حيواناً والنجف تقتل إنساناً

قيل أن ” الأشياء تُعَرِف بنقائضها،” يعني إننا لانستطيع معرفة شدة بياض صحيفة بيضاء حتى نضع بجانبها صحيفة سوداء. المقارنة أصبحت إحدى أهم مصادر المعرفة، إذ ليس من السهل على الفرد تشخيص أخطاء سلوكيات وممارسات مجتمعه إلا من خلال مقارنتها بسلوكيات مجتمعات أجنبية يتعرض لها من خلال عيشه بينها أو اختلاطه بها. ولايبدو أن هكذا أمر يسيرا على الادراك من قبل العامة في العراق لأسباب أهمها أن العزة تمنعهم من الاعتراف بالاثم وقلة الاختلاط بالمجتمعات الاخرى أو مفهوم العِلّية الدينية وتاليا الثقافة المجتمعية التي يعتقد العراقيون خطأّ أنها منبثقة من الأسلام الذي هو عندهم أحق الأديان، بينما تمثل القبيلة ،وليس الاسلام، المصدر الرئيسي للثقافة العراقية. أما المقارنين (Comparatists) المتخصصين في الادب المقارن، فيبدو الفرق الثقافي لهم جليا.
قبل أيام قلائل لفت انتباهي خبران في الحصاد الاخباري العراقي أولهما عثور مجموعة من موظفي السفارة الهولندية على أسد يبلغ من العمر أقل من سنتين معروضاَ للبيع، يعيش في ظروف مزرية في مأوى للحيوانات في بغداد. وقد رقت قلوبهم للاسد لانه ،حسب قولهم، في حالة توتر دائم لصغر قفصه وسوء التغذية وتواصل مواء ونباح القطط والكلاب التي تحيط به والضوضاء الصاخبة حيث يقع المأوى في شارع مزدحم يضج بهرج المارة ومنبهات السيارات. فاتحت المجموعة منظمة هولندية تعنى بمعالجة وتأهيل الحيوانات واطلاقها في البرية تدعى (Stichting Leeuw) فابدت المنظمة رغبتها في انقاذ الاسد.
قدرت المجموعة أنها بحاجة لجمع مبلغ حولي 8000 يورو لشراء واطعام الأسد وتبرعت شركة هولنديه أخرى بنقله الى هولندا مجانا. وإبتدأت المجموعة حملة تبرعات عبر موقع على الانترنت ويبدو إنهم استطاعوا جمع مبلغ اكبر مما تمنوا فتبرعوا بما تبقى للمنظمة التي ستتبناه. وفعلا تم نقل الاسد الى الاردن، ثم الى مطار ماستريخت حيث كان سيقوم الاطباء بفحصه ثم نقله الى مأوى الأسود في آنا بولونا، وبعد أن يتعافى سوف يطلق في البرية في أفريقيا. أكيد سيملؤنا الفخر عندما يشار الى الاسد بعد سنوات وهو يسرح في غابات افريقيا ب ” الاسد العراقي” إذ ليس غريب علينا ،نحن العراقيون، ان ندعي لانفسنا نجاحات غيرنا.
وعلى صعيد معكوس، تمكن أشاوس شرطة مكافحة الاجرام في مركز الغري في النجف من قتل المواطن النجفي ماهر راضي عبد الحسين الرماحي من جراء التعذيب. دماء ماهر لازالت على أيدي العميد رافع الذي أشرف على التعذيب، والمقدم حيدر مدير مكافحة الاجرام في مركز شرطة الغري، والنقيب حيدر ضابط التحقيق، حسب رئيس اللجنة القانونية في مجلس محافظة النجف، حسين وحيد العيساوي.
وكما هو حال المسؤولين في دولة القانون (عراق اليوم “الديمقراطي”) استهانت مديرية شرطة النجف بعقول النجفيين بعد أن استهترت بارواحهم فأعلنت في بيان إن الجروح والكدمات التي وجدت على جثة المجني عليه كانت نتيجة تعرضه لحادث “ستوتة” قبل القاء القبض عليه من قبل شرطتها، وهددت بمقاضاة من يدعي العكس فيما اعتبرته حملة على مواقع التواصل الاجتماعي للتشهير بالضباط والمحققين دون الاستناد الى أدلة وبراهين لم تستند هي اليها عندما فبركت كذبة حادث الستوتة. وحسب العيساوي، تمارس الآن ضغوط كبيرة من بعض الضباط على الطب العدلي لكتابة تقرير يبرئ شرطة مكافحة الاجرام من ارتكاب الجريمة. لم يشفع إسم أبي ماهر ( عبد الحسين) لماهر عند شرطة مديرية مكافحة إجرام النجف للحفاظ على حياته، فما بالك لو كان اسمه معاوية أو سفيان أو عثمان أو دلشاد؟
السيد رئيس الوزراء عادل عبد المهدي لم يرف له جفن لقتل مواطن من قبل اجهزة الدولة الامنية ولم يعلّق حتى على الضجة الاعلامية المستحقة التي سببتهها تلك الجريمة المروعة في مؤتمره الاعلامي الاسبوعي الذي اعقب الحادث. هو عادة يسهب في الحديث عن أمور كثيرة في مؤتمراته الصحفية تبدأ من تحديد الدول التي تصدر المخدرات الى العراق الى مكرمة اضافة العدس الى الحصة التموينية في شهر رمضان، لكنه لم يجد ارتكاب جريمة قتل مواطن أثناء التعذيب أمراً يستحق التعليق.
للامانة أقول ان الرجل حافظ على رباطة جأش غير مسبوقة في مؤتمراته تلك وبدا مستمتعا بها نافدا صبره إنتظارا لها. يتحدث فيها حديث المثقف في منتدى وليس حديث الرجل الاول في الدولة والشرطي الاعلى المسؤول عن أمن كل مواطن، الذي يفترض أن يفور غضبا ويزبد مهددا كل من يعبث بامن الدولة والشعب ولااريد ان اذهب الى ابعد من ذلك واقول يفترض به ان يلبس بدلته العسكرية ويقود المداهمات ضد أوكار الشر والجريمة في هذه المرحلة الحرجة، اليس هو القائد العام للقوات المسلحة؟ لا، بل على العكس من ذلك فهو يتحدث باسلوب هاديء كأنه مثقف سبعيني او فريض عشائري او حكيم هندي (guru) أو شيخ عاقل يحكم بين متخاصمين ((arbitrator وليس رأس هرم السلطة التنفيذية الذي يتمتع بسلطات هائلة لفرض القانون والمحافظة على الامن.

اذا لازالت شرطتنا تمارس التعذيب وانتزاع الاعترافات بالاكراه فما الذي اختلفنا به عن ممارسات النظام الديكتاتوري التعسفي البعثي؟ الاختلاف هو فقط تغييرهوية المعذبين. تعذيب وانتهاك حقوق المعارض للسلطة بقيت كما هي واساليب وادوات التعذيب وانتزاع الاعتراف بالقوة هي الاخرى بقيت كما هي، فلم إذن دفعنا قوافلا من الضحايا وهُجِّرنا وتغربنا من أجل شمس الحرية؟ شمس الحرية التي وضع الاسلاميون بعد عام 2003 كل عمائمهم وجببهم بطريق بزوغها؟ الذي اختلف بين قبل وبعد عام 2003 هو فقط ذهابنا طوعا الى صناديق الاقتراع فقط لننتخب طغاة وفاسدين وقتلة ومعذبين من طائفتنا وعشائرنا إيمانا بالقول العربي القبلي القائل ” آكل لحمي ولا يأكله غيري.” هل عارضنا نظام صدام لاننا نبحث عن ديكتاتور شيعي أم اننا عارضناه من أجل نظام عادل يؤمن لنا حقوقنا وحرياتنا في دولة يحكمها القانون وليست العشيرة او الحزب؟ هل حطمنا صور وجدارايات صدام لاننا أحرار لانمجد جداريات أو صور “رموز” تريد استعبادنا؟ أم اننا حطمناها كي نستبدلها بصور وجداريات “رموز” نحن نختارها. هل ثرنا لاستعادة حرياتنا المسلوبة أم لتبديل هوية سادتنا؟
الديمقراطية، أيها السيدات والسادة، ليست انتخابات وحكم الاغلبية وقهر الاقلية كما يفهمها اغلب العراقيين، فهذه ديمقراطية العشائر، إما الديمقراطية التي نكافح من أجلها فأساسها ،بالاضافة الى الانتخابات والتداول السلمي للسلطة، العدالة وحماية الحقوق والحريات الفردية والمجتمعية بما ذلك حريات وحقوق الاقليات العرقية والدينية والسياسية والاجتماعية. الديمقراطية هي مجموعة سلوكيات تختارها الشعوب قبل ان تكون قوانين مفروضة عليها، فمن يجد في داخله رحمة على حيوان مفترس كالاسد السجين في بغداد وينفق الاموال من أجل عتقه واعادة حريته المسلوبة وتأهيله ثم اطلاقه في البيئة التي منها اتى، يعرف قيمة ومعنى الحرية للانسان والحيوان على حد سواء. ويقينا لو كان هذا الشخص شرطيا في النجف لرفض حتى اوامر رئيسه ان هو أمره بتعذيب إنسان سجين لان ذلك ليس من شيم الانسان المدني الرحيم الذي يستمتع بحريته وينشدها لغيره. الديمقراطية نظام غريب علينا لذا يتطلب تبنيه تشذيب سلوكياتنا العشائرية الفضة والتراحم فيما بيننا وان نحب لاخواننا البشر مانحب لانفسنا، والا فليس من حقنا الادعاء ان لدينا نظام ديمقراطي وهو في الحقيقة نظام عشائري يقتبس رجاله ارتداء الزي الغربي فقط لتقمص دور رجال الديمقراطيات الغربية .