أحمد سوسة ضميرُ العلمِ ومسافرُ الزمان في خرائط الأرض وذاكرة الحضارة

أحمد سوسة ضميرُ العلمِ ومسافرُ الزمان في خرائط الأرض وذاكرة الحضارة

في تاريخ العراق الحديث، تمر أسماء كثيرة، ولكن قلّ من يترك أثرًا ممتدًا لا يُمحى من ذاكرة العلم والوطن. ومن بين تلك القلة النادرة يبرز الدكتور أحمد نسيم سوسة، لا بوصفه مجرد مهندسٍ بارعٍ أو باحثٍ أكاديمي، بل كواحد من المعماريين الكبار للوعي التاريخي والجغرافي العربي، وكاتبٍ جسّد في مؤلفاته خريطةً فكريةً مترامية الأطراف، توزعت بين طمي الفرات ورمال نجد، وامتدت حتى جبال الأندلس وأسرار الإدريسي.
ولد أحمد سوسة في مدينة الحلة سنة 1900 (1318هـ)، من أسرة يهودية عراقية، ثم اعتنق الإسلام عن قناعة، وكان اعتناقه للفكر والبحث أسبق من ذلك بكثير. تشكل وعيه في الجامعة الأمريكية ببيروت، ثم نضج في رحاب كلية كولورادو، واستوت قامته العلمية في جامعة جون هوبكنز التي منحته الدكتوراه بشرف، فكان من الأوائل الذين حملوا قبس التخصصات الحديثة إلى وطنهم، وعضوًا في مؤسسة فاي بيتا كابا العلمية، ونال جائزة ويديل من جامعة واشنطن عام 1929، عن مقاله الداعي إلى السلم بين الشعوب.
عاد إلى العراق ليمسك بمعول الري وقلم الهندسة، فعُيّن مهندسًا في دائرة الري عام 1930، ثم تدرج حتى بلغ مناصب عليا، منها معاون رئيس هيئة مشاريع الري الكبرى، ومدير عام المساحة، ومدير عام وزارة الزراعة. وكان أحد أوائل أعضاء مجلس الأعمار وأحد مؤسسي جمعية المهندسين العراقية عام 1938. كما كان عضوًا عاملًا في المجمع العلمي العراقي منذ تأسيسه حتى وفاته في بغداد عام 1982.
لكن الوجه الأعمق لسوسة لم يكن في مناصبه، بل في فكره الحر وعقله الموسوعي، فقد ظل يؤمن بأن العلم لا يُجزَّأ، وأن الجغرافيا والتاريخ والهندسة ليست جزرًا منفصلة، بل أرخبيلًا معرفيًا متصلًا. ومن هنا جاءت مؤلفاته لتشكل رؤيةً متكاملة لما يمكن أن نسميه بـ”تاريخ الأرض والإنسان في العراق”.
لقد أنصفه العلماء العرب قبل غيرهم، فقال فيه الجغرافي المعروف الدكتور جمال حمدان إن سوسة “واحد من أعمق العقول العربية في الجغرافيا التاريخية، وإن أطالته في دراسة وادي الفرات تكاد تكون مرجعًا لا يُستغنى عنه”، كما نعته المجمع العلمي العراقي بعد وفاته بأنه “من أبرز رواد البحث العلمي الحر، ومن المؤسسين لنهضة علمية رصينة في العراق الحديث”.
أما كتبه، فقد كانت تُقرأ لا بوصفها بحوثًا جامدة، بل سردًا حضاريًا مشوقًا، جمع بين منهجية المهندس وسعة أفق المؤرخ وذكاء الجغرافي. ويكفي أن نذكر أن كتابه “في طريقي إلى الإسلام” ترك أثرًا واسعًا في الوسطين الثقافي والديني، وأن كتابه “تأريخ يهود العراق” يُعد إلى اليوم من أدق ما كُتب عن الوجود اليهودي في بلاد الرافدين.
وقد أثنى عليه المؤرخ اللبناني فيليب حتي بوصفه “باحثًا عراقيًا استثنائيًا أعاد للمنطقة وعيها بمياهها المهدورة وتاريخها الغابر”، بينما قال عنه المفكر عبد العزيز الدوري: “سوسة ظاهرة علمية، لا يمكن فهم تاريخ العراق المائي والزراعي دون الرجوع إلى مدونته الغنية”.
من أبرز مؤلفاته:
الري في العراق، وادي الفرات، في طريقي إلى الإسلام، تأريخ يهود العراق، العرب واليهود في التاريخ، الشريف الإدريسي في الجغرافية العربية، فيضانات بغداد في التاريخ (ثلاثة أجزاء)، أطالس العراق الإدارية والحديثة وبغداد، مشروعات الري الكبرى، دليل ري العراق، سدة الهندية، ري سامراء في عهد الخلافة العباسية، وغيرها.
وقد نال على جهوده أوسمة رفيعة، منها وسام الملك عبد العزيز (1939)، ووسام الرافدين من الدرجة الثانية (1953)، ووسام الكفاءة الفكرية من ملك المغرب (1976)، وجائزة الكويت لأفضل كتاب عام 1963، وجائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1975.
وفي حزيران عام 2018، أعيد له شيء من حقه المعنوي، حين افتُتحت مكتبة ومتحف أحمد سوسة في المركز الثقافي العراقي، لتحتضن كتبه ومخطوطاته وأجهزته وأطلساته التي حفرت مجرى جديدًا في مسار الدراسات العربية.
لقد عاش أحمد سوسة قرنًا إلا قليلًا، لكن علمه عاش قرونًا، وما زال يعيش. فمن يُحسن قراءة النهر، لا تجف كلماته أبدًا.

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات