شاعر وروائي فلسطيني
يقدم الشاعر أحمد الصويري، في ديوان تجبّ ما قبلها ، الصادر عن دار موزاييك للدراسات والنشر2024م، تجربة شعرية فريدة ومختلفة ،. ويبرز الشاعر كأحد الأصوات الشابة التي تسهم في إثراء المشهد الشعري الشبابي العربي. يعكس ديوانه الجديد تجربة جادة، تجمع بين العمق الرمزي والبساطة اللغوية، ويتناول موضوعات شائكة تتعلق بالهوية والزمن، فيمزج بين الأساليب والتقنيات، ليخلق نصوصًا متعددة الأبعاد تدفع القارئ إلى التأمل والتفكير.
يتحرك الصويري في هذا العمل، بين أبعاد متقابلة من التأمل والخيبة والأمل، معتمدًا على لغة توازن بين الوضوح والغموض، وبين الصراحة والانغلاق؛ كما يظهر في قوله: “كنتُ عن ليلهم أنوي الرحيل/ ولكنَّ الصباحات مذ أبصرتُ/ عمياءُ”. هذه الأسطر تعبّر عن التناقض الحي بين الرغبة في الخروج من الظلام وبين عجز الصباحات عن تحقيق الرؤية، مما يجعل تجربة السفر الداخلي انعكاسًا للتحرر المقيد، حيث يترك القارئ أسيرًا في ميدان مشحون بالأمل المجهض، والعجز الحتمي.
يمتاز الديوان بتنوع صوره الشعرية، ويعتمد الشاعر فيه على تكرار لفظي وصوري متعدد الأبعاد، ليخلق مساحة غنية بالمعاني المتباينة، مما يعكس ازدواجية المعنى بشكل متعمّد. في أحد المقاطع، يقول الصويري: “طويلًا كألسنة الشعراء/ مليئًا كأعينهم”، ليستخدم جملة مزدوجة تشكل بناءً فنيًا يعبر عن التناقض بين الامتلاء والفراغ، وكأن الشاعر ينحت مشاهد بصرية تتجاذبها حالات متضادة من الانتظار والانتهاء. في هذا السياق، يبدو الصويري كحكّاء ماهر ينسج نصوصه عبر تشابك الصور المتناقضة، ليدفع القارئ للبحث عن دلالات خفية، مما يجعل النص فسيفساء من المعاني التي تستفز المتلقي وتجعله مشاركًا في عملية التفكيك والتأويل.
في إطار هذه الأسلوب المتفرّد، يمنح الصويري قصائده طابعًا لا يتيح للتفسير الأحادي الاقتراب منه؛ بل يحررها للانفتاح على تعقيدات الهوية وإعادة صياغة الذات. يظهر ذلك جليًا في قوله: “كبرنا على عمرنا/ ضاق قميص الحياة كثيرًا”، حيث يستخدم هنا استعارة الزمن المقيّد بقميص ضيق، ليشير إلى شعور داخلي بالاغتراب، يوحي بتجربة ذاتية تتحدى القيود الزمنية، مما يجعل كل صورة تعكس شعورًا بالاختناق والتمرد. يتجلى التوتر الأسلوبي في هذه الاستعارات، إذ يجعلها الشاعر قنوات للتعبير عن الذات والآخر، في إطار يُعيد تعريف مفاهيم مثل الهوية والزمن خارج سياقها التقليدي.
وبالرغم من بساطة اللغة، يخلق الديوان تعقيدًا فنيًا عبر انزياحات دلالية متكررة. ويعمد الصويري إلى تكرار ألفاظ كـ”الصباح”، “الظلام”، و”الجرح”، مما يجعل النص مرنًا وكأن كل لفظ يعيد تشكيل المعنى، بحيث يتحرك النص كرحلة حلزونية بين الماضي والحاضر. هذا الاستخدام المتقن يخلق تماسكًا داخليًا ويضفي على النصوص طابعًا ملحميًا يجذب القارئ لتجربة شعورية يتنقل فيها بين أزمنة متداخلة، في تتابع متصل ومنقطع في آن واحد.
ينتقل هذا الديوان من كونه مجرد سردية شعرية إلى تجربة فلسفية تتحدى الأفكار الثابتة، مما يعبر عن أن المعنى ليس ثابتًا، بل يتغير ويتشظى. يقول الشاعر: “خذني إليها! ما تزال تعدّين نبضًا/ كفجر القلب عمّا درى”، فيخاطب ذاته وكأنها كيان آخر، مما يعطي القارئ شعورًا بأن الذات ليست مستقرّة، بل تتأرجح بين الحقيقة والوهم. هذه الثنائية تعكس بوضوح أبعادًا تفكيكية، حيث يصبح المعنى مفتوحًا على احتمالات تتخطى الحاضر والماضي، وتدعو القارئ إلى تأمل متناقضات الحياة.
يعتمد الديوان على لغة تختزل في تراكيبها مشاعر الصراع والبحث، ويظهر ذلك بوضوح في قوله: “مسافرٌ.. ألقَتِ الغيماتُ سرّتهُ على الجهاتِ.. فما خلَّت لهُ أثرًا”. في هذه الأسطر، يشير الشاعر إلى رحلة مجردة تُفقد آثارها، ليخلق بذلك إحساسًا بعدم القدرة على الوصول إلى نهاية محددة. النص هنا يتجاوز حدود الزمان والمكان ليشكل فضاءً من التأملات حول هشاشة الإنسان، ويعبر عن انعدام الثبات الذي يلازم الذات، كما لو كانت كل رحلة محض سراب.
لا يقدّم هذا الديوان إجابات مباشرة، بل يترك الأسئلة مفتوحة، حيث تتجاور مشاعر الشك واليأس كما في قوله: “قالوا ستعرفُ -ذات يومٍ- لماذا عشقتَ / كنتُ أرددُ أن الشك يلتهم يقيني”. هنا، يتحول الشك إلى عنصر مركزي يعبر عن “اللامعرفة” كحالة ، ويعيد التأكيد على أن كل معرفة تحتمل النفي، لتصبح القصيدة صدىً لصوت متمرد يعبر عن هشاشة اللغة والمعرفة على حد سواء.
في هذا العمل يتركنا الشاعر أحمد الصويري أمام دعوة صريحة لاستكشاف أعماق النفس البشرية، مدعوماً بلغة شعرية تمتزج فيها الألوان والأحاسيس. يجسد “تجبّ ما قبلها” إبداعًا شعريًا يساهم في دفع التجربة الشعرية الشابة نحو آفاق جديدة، ويؤكد على قدرة الأدب على تعميق الفهم الإنساني لمشاعر متناقضة، ليبقى في الذاكرة كنقطة انطلاق للبحث عن الحقيقة في عالم مليء بالتعقيدات.