26 نوفمبر، 2024 10:16 ص
Search
Close this search box.

أحمد الجلبي والمرحلة القادمة

أحمد الجلبي والمرحلة القادمة

لم تنهض امة من الأمم أو سار شعب من شعوب الأرض إلى الازدهار، دون أن يكون هناك شخص قد حمل مشعل التغيير فأنار الطريق بأفكاره ولانت له المصاعب لشجاعته. الحديث هنا عن أناس دخلوا السياسة بأفكار اقتصادية وغيروا الواقع المتخلف والفقير إلى المتحضر والمزدهر. وهم أمثلة من عالمنا المعاصر. لنبدأ مع دنغ شياو بينغ الذي تولى قيادة الصين من 1978 إلى 1992 والذي طرح فلسفته في اجتماع الحزب الشيوعي قائلا
“لايهم إن كان القط اسودا أو ابيض، مادام يصيد الفئران فهو قط جيد”، بهذه الكلمة البسيطة و الذي قصد بها دنغ شياو تبديل الأفكار الشيوعية القديمة باقتصاد السوق مع الإبقاء على الحزب، اختصر عالما من التغييرات سيطرأ على بلد كبير مثل الصين ليصبح بعدها بفضل أفكار دنغ شياو الاقتصادية وحكمه السياسي، واحد من أعظم بلدان العالم اقتصاديا. يقول عنه مؤلف كتاب”لماذا تفشل الأمم”: لم يحدث هذا لأن الحزب الشيوعي الصيني فهم أخيرا أن الملكية الجماعية للأراضي الزراعية وللصناعة إنما تنشئ حوافز اقتصادية رهيبة. بل كان دنغ شياو بينغ وحلفائه من وراء ذلك. هؤلاء الذين كانوا لا تقل مصالحهم الذاتية عن منافسيهم لكنهم كانوا يختلفون بتطلعاتم و أهدافهم السياسية، والتي هزموا بها المعارضين في الحزب الشيوعي ودبروا ثورة سياسية من نوع ما غيرت جذريا في القيادة والتوجه للحزب. اقتصاديا، خلقت هذه الثورة السياسية حوافز السوق في الزراعة و ثم في وقت لاحق في الصناعة . السياسة هي التي حددت التحول من الشيوعية نحو حوافز السوق في الصين، وليس هناك مثال أو نصيحة أفضل من هذه لفهم كيفية عمل الاقتصاد”.

وهناك أيضا، لي كوان يو، المستبد الناعم، كما يصفوه. الذي جعل من سنغافورة الفقيرة بلد استثماري متحضر من الطراز الأول، قفز فيها معدل دخل الفرد من مئة دولار قبل ثلاثين عام ليصل إلى خمسين ألف دولار حاليا. يقول لي كوان: الدول تبدأ بالتعليم، وهذا ما بدأت فـيه عندما استلمت الحكم فـي دولة فقيرة جدا، اهتممت بالاقتصاد أكثر من السياسة، وبالتعليم أكثر من نظام الحكم. ثم بعد الرحيل النهائي للقوات البريطانية من سنغافورة، يشرح لي كوان يو الإجراءات التي اتخذت لمواجهة المرحلة الجديدة: ‘لم يكن أمامنا إلا أن نبدأ بالسياحة، ما أدى إلى نجاح جزئي لكنه غير كاف للقضاء على البطالة. فكان من الطبيعي ألا تقتصر خططنا على جانب واحد من الاقتصاد، لذا شجعنا على بناء المصانع الصغيرة، خصوصا مصانع تجميع المنتجات الأجنبية على أمل أن نبدأ بتصنيع بعض قطعها محليا، وعرفنا الكثير من الفشل سواء لنقص الخبرة أو لعدم الحصول على الاستشارات الصحيحة. وكلفنا ذلك الفشل غاليا لكننا استفدنا من الدروس المكتسبة وعملنا لئلا نقع في الخطأ مرتين’. ويضيف كوان يو نقطة مهمة: ‘اخترنا دائما الفرد أو العنصر الأفضل لأي مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته أو أصله أو دينه، كنا نهتم بالنتيجة فقط وكنا نعلم تماما أن فشلنا يعني حروبا أهلية واندثار حلم’، وبعد انسحاب آخر جندي بريطاني، تمكنت حكومة لي كوان يو من استعادة جميع القواعد والأراضي والمباني التي كانت تعود إلى البريطانيين واستغلالها بصورة مربحة، كما تمكنت من تقليص البطالة إلى حدودها الدنيا مع نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي. ومن بين أهم إنجازات تلك الفترة بناء مدينة جورونغ الصناعية على مساحة 9 ألاف فدان لجذب الاستثمارات الأجنبية. وفي فترة قصيرة، وثبت سنغافورة وثبتها الكبرى باستغلال موقعها الجغرافي المتوسط بين اليابان وأوروبا واندماجها الكامل في الاقتصاد الدولي وبعدها عن نقاط التوتر في قارة آسيا، فأصبحت تستقبل 70 % من تجارة الحاويات في العالم كما تحولت إلى واحدة من أهم المراكز المالية.
 
المثال الآخر هو مهاتير محمد، صانع الأحذية في ماليزيا و صاحب نهضتها واحد ابرز الاقتصاديين في العالم.
كان يهتم بالتعليم منذ مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية، وانشأ منهج أضاف فيه مواد تُنمي المعاني الوطنية، وتغرز روح الانتماء للبلد، كما واكب الاهتمام بالتعليم دخول ماليزيا مرحلة تصنيع الأسمنت والحديد والصلب، بل وتصنيع السيارة الماليزية الوطنية (بريتون)، ثم التوسع في صناعة النسيج وصناعة الإلكترونيات، والتي صارت تساهم بثلثي القيمة المضافة للقطاع الصناعي، وتستوعب 40% من العمالة. وهناك الدور الذي قام به مهاتير محمد في إدارته للأزمة المالية التي عصفت بكل دول شرق آسيا وبدا أن النجاح الذي حققته على وشك التحول إلى فشل صدر مهاتير محمد مجموعة قرارات تهدف إلى فرض قيود على التحويلات النقدية وفرض أسعار صرف محددة لبعض المعاملات، في الوقت الذي اتجهت فيه معظم الدول لسياسة تعويم العملة تنفيذًا لنصائح صندوق النقد الدولي، ورغم ضغوط البنك الدولي أصر مهاتير على سياسته التي أثبتت الأيام أنها كانت ناجحة.
والمثير للإعجاب أن مهاتير محمد كان دائمًا وفي كل المحافل الدولية يعتز بإسلامه، ويرجع نجاحه إلى تطبيقه لتعاليم الإسلام. ، وبعد أن شعر الدكتور مهاتير محمد بأنه قد انتهى من أداء رسالته أعلن استقالته من جميع مناصبه الحزبية. وكان قد تولى رئاسة الوزراء في عام 1981.

هذا العرض بسيط يبين تجارب بعض الدول الآسيوية، والتي قامت ينهظتها على أفكار اقتصادية تقودها السياسة. ألا يصح لنا أن نتساءل نحن العراقيين: هل لدينا شخصية عظيمة كهؤلاء؟ وهل نحن كشعب مؤهلين لفهم ودعم شخصية مبدعة كهذه الشخصيات إن وجدت بيننا؟ نحن كشعب عراقي سيظهر بيننا من يقودنا نحو الازدهار إن وضعنا أنفسنا على طريق التأهب لهذا التغيير. وعرفنا سبب محنتنا وتخلفنا. هذه المجتمعات اتجهت إلى اليابان في نظامها الاقتصادي ونهظتها العمرانية، والى الجامعات الأمريكية والإنكليزية في التعليم، فاكتسبت إلى جانب نهظتها الاقتصادية، خصوصية آسيوية حافظت بها على التقاليد والدين والثقافة. فإلى من يتجه بلد مثل العراق لدعم واقعه التعليمي والتكنولوجي، ومن هم أصدقاء العراق من الدول التي تسند العراق في نهضته ومصالحه العامة. هل هو الشرق أم الغرب، أم العرب أم الدول المتوسطية. نحن بحاجة إلى سياسة اقتصادية يقودها سياسي عنيد له معرفة بطبيعة المجتمع العراقي، ليقود مؤسساتنا إلى الازدهار ومعارفنا إلى الانفتاح وتجديد الشخصية العراقية.
 هل يمكننا القول بأننا نملك هكذا شخصية في الوقت الحاضر ممثلة بأحمد الجلبي؟ أو ربما تكون شخصية  أخرى نعرفها أو لا نعرفها.
احمد الجلبي، الذي حالف الجميع وحاربه الجميع فصار انسحابه عن الساحة السياسية امرأ لابد منه،  فهو تسليم للإرادة الشعبية أولا، وللقوة التي يتمتع بها خصومه الحاليين ثانيا. سياسة احمد الجلبي التي تناغمت مع الدول الكبيرة أسقطت اكبر ديكتاتورية في الشرق الأوسط، واسهم الجلبي في تكوين نظام سياسي جديد في العراق فحاربته السياسة الأمريكية المتشددة أولا ثم شن عليه الأعلام العربي حملة واسعة لإسقاطه سياسيا، أما في الداخل فقد همشته القوى السياسية التي استلمت الحكم بالانتخابات.  لكن الأمر الأهم في هذا كله هو هل يستطيع الجلبي رغم كل الظروف العسيرة الحالية أن يدخل السياسة العراقية من جديد و بمشروع سياسي/ اقتصادي كبير يحقق به الهدف الذي من اجله عاد إلى العراق، ويصبح مثلا أعلى كمهاتير ولي كوان ودنغ شياو، أم يرضى بخسارته في هذه الجولة ويتحول مثالا للفشل. لا احد يستطيع أن يتكهن بما سيحدث، لكنها كلمة لابد منها، وأن المقادير القادمة تعتمد حقا على صلابة احمد الجلبي في المضي لتحقيق مشروعه، وعلى قدرة الشعب العراقي في رؤية مستقبله.

[email protected]

أحدث المقالات