نزلتُ إلى الشارع صباحا وفي جعبتي أمورٌ كثيرة ” خططتُ ” لإنجازها بعد أن توكّلتُ على الله.
قدّرتُ أنني لن أنجز في يومي هذا إلا شأنا واحدا أو نصف شأن.
فالمعاملات كثيرة والمصالح عدّة والدوائر عديدة.
لكنّي فوجئتُ بعد أن رأيتُ العجبَ العجاب.
وجدتُ موقف الحافلة خاليا من المنتظرين، فقد انطلقت للتو حافلة حملتْ من كان ينتظر من الركّاب.
وما هي إلا دقائق قليلة حتى انطلقتْ بنا حافلتنا التي صعدنا بها، ولكن ليس قبل أن تأتي مكانها ثالثة أخرى ورابعة وخامسة.
رأيتُ الشوارعَ نظيفةً مغسولة. لا حاويات غاصّة بالأزبال ولا أوراق أو بصاق ولا بقايا عربدة أو سوء تربية أو ذوق.
كانتْ حركة السير سلسةً متواصلة. لا توقفات ولا ازدحام. لا شرطة ولا مرور ولا حوادث.
الناس على الارصفة واعين منضبطين والسيارات على خطوط سيرها لا تخرق خطا ولا تقرع بوقا.
خدمة الانترنت انبعثت في هاتفي النقال وأنا في الفضاء الرحيب
وانهالت الرسائل عليّ عارضة دروسا وكتبا وتسهيلات دفع وخدمات من كلّ نوع وصنف.
لم أعد أتبيّن مكاني ولا مدينتي.
ما عدتُ أعرف أين أنا. في أيّة مدينة من مدننا وأي بلد من بلادنا.
فالمكان بات مجهولا بعد أن تغيّرت معالمه. وكذلك الناس. لقد تغيّر كلّ شيء.
عنّ لي أن أدخل دائرة من الدوائر لأمر كان يقضّ مضجعي.
تلقاني الموظف هاشا باشّاً
أنجز ما طلبتُ في أقلّ من لمح البصر.
شكرته. عبّرتُ له عن امتناني. حاولتُ، كما اعتدتُ أن أفعل مع أمثاله، أن أقدّم له ” هدية “.
فاجأني. قال لي: أولستَ مسلما؟ أو لستَ مؤمنا؟ ألم تسمع أو تقرأ بأن الله قد لعن الراشي والمرتشي؟
سمعتُ…قرأتُ. – قلتُ له -. وخرجتُ وأنا أتعثر في مشيتي وأشكّ في قواي وحالتي.
وازدادتْ دهشتي، وأكثرُ منها حيرتي، وأنا في المستشفى ثمّ أمام شبّاك أحد المصارف ثمّ في السوق ثمّ في طريق العودة إلى البيت.
من أين جاءت هذه البنايات؟
ومتى اخضرّت تلك الحقول؟
من أقام المعامل التي أرى الدخان ينبعث من مداخنها؟
والجسور التي نعبر عليها؟
والأنفاق التي نخترقها؟
أيّ سوبرمان هذا الذي أقام في ذلك الزمن القياسي كلّ هذا وقلب المشهد كلّه وغيّر وجه المدينة؟
لم أعد أتبين مكاني وزماني
فالمشهد أكبر من أن يوصف
والحالة أعظم من أن تصوّر.
قررتُ أن أعتكف في بيتي.
أن ألزم جدران غرفتي.
ألا أخرجَ كي لا أكتشف أن ما رأيتُ كان وهما
ألا أنام كي لا أصحو في الغد وقد تبدد الحلم.