بتاريخ 28 / 12 / 1962حَلتْ في مدينة الشطرة 50 كم شمالي الناصرية مأساة لم تشهد لها المدينة مثيلاً حتى عندما عاشت وقائع التصدي للجيش الانكليزي الزاحف صوب بغداد قادما من البصرة في اوائل القرن العشرين وكان من اشهرها معركة باهيزة ، عندما غرقت السيارة الباص الفولفو الخشبية والتي ثبتَ في مقدمتها السائق سطورا من الخط الكوفي أمام السائق كتب عليها( لا تخف دركا ولا تخشى) وعبارة أخرى ( السياقة فن وذوق وأخلاق ) والعبارتين هما بخط الفنان صباح السهل الذي تم اعدامه في تسعينات القرن الماضي بوشاية او تقرير او تسجيل يتندر يهاجم على رئيس الدولة.
غرقت السيارة الفولفو وهي تحمل اكثر من خمسين تلميذة ومعلماتهن في مدرسة العفة الابتدائية ، اثناء عبورها على جسر البطاط الخشبي في ضواحي مدينة سوق الشيوخ والنتيجة أن أثنين واربعون ضحية واغلبهن من التلميذات ، وكان ذلك اليوم المأساوي يوما لا ينسى في تأريخ المدينة شاع حزنه في جميع العراق ويُقال أن الزعيم عبد الكريم قاسم لم يخفيَّ دموعه واخذ منه مرافقه الخاص منديله وقد امتلئ بالدموع وهو يقرأ نعيَّ لطفولةِ الشطرة الغريقة التي طبعت على المانشيتات السوداء الصفحات الاولى لصحف العراق.
يوم جاءنا معلم رسم من اهالي الشطرة كتعيين جديد ، تعودنا على يوم سنوي نقيمه كقداس لأحياء هذه الفاجعة فلقد كانت ابنة اخيه معهم ، وفي أول عام لاستذكار فاجعة ( غرق تايتانيك الشطرة ) كُلفتْ أنا بألقاء قصيدة كتبها الشاعر الرائع خالد الشطري وهو يرثي ولده ( علي ) الذي كان بين الضحايا ، وما زلت الى اليوم اتذكر دمعتي التي لامست ضفاف الاهوار وهي تشدو معي نشيد الشاعر لولده ومنها :
اخواك ياطفلي الحبيب تساءلا حرس العيون وانا اترجم حسهم
رفقا بأمك ياعلي تبدلت قد عذبتني بالسؤال تقول لي
ممزقة الشفتين تنهش صدرها وتروح تزهق للسماء وتنتهي
فلتلعب الايام ما وصلت بشواظ نارك يا محط رجائي
كنت أشعر حينها أن كلمات القصيدة تذهب سارحة الى المكان الغير بعيد من قريتنا والذي ( ركست ) فيه الباص الخشبي وسط الجسر فسكنت في قاع الالم بروح الشطرة كحزن الآخر لتيتانك مصغرة شغلت المدينة بمراثي النواح في اجمل صوره حين تزفُ المدينة شهداء الفرات في عرس من نحيب بكت فيه حتى التلال الاثرية في اكد وتلو وقباب السادة الياسرين الذين يطوقون المدينة بالقماش الاخضر من بنية السادة آل بو حمد وحتى قبر السيد العباس ابو كله .
وهكذا كل عام في مثل هذا اليوم تستعيد الأهوار مع تايتانيك الباص الخشبي حزن موت طفولة الشطرة ، فتسكن ذاكرة القصب دمعة الغرق وتنتشر في سماء المكان سحابة من صدى نواح أم كانت الغريقة هي وحيدتها ، وعلى ليل الشموع التي كان يجلبها معلم الرسم الشطري كل عام تهطل حكايات الغرق وتفاصيل أخر لحظة في حياة الطفولة التي ربما غرقت معها دمى ومتاع من بيض مسلوق وكباب ( طاوة ) وباقات بصل أخضر وكراث ودفاتر انشاء وحساب وحقيبة معلمة فيها أشياء خاصة ( دفتر الخطة ، وفلم احمر شفاه ، وقائمة الكهرباء ، وكتاب رسمي بالعلاوة السنوية )
تايتانيك واحزان بنات الشطرة قداس الأهوار السنوي تقيمه كاتدرائيات وجوامع ومعابد مدرستنا المبنية من قصب البردي ، وحيث يشاركنا برد كان البكاء تسير اغنية الحنين وهي ترتدي حذاء الورد تحت الارصفة الشعرية بين جهة الحنين والبكاء التي تسكن قلب الشاعر خالد الشطري الذي ينسب اليه كتابة قصيدة انا وليلى ، فينمو عشب المودة ويصبع الصمت وجوه المعدان وقد صاروا يحسبون لموعد هذا الحزن الشطري يوما بعد يوم…..!