في أروقة جامعة بغداد، في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، كانت الحياة تمضي وكأنها فصلٌ من روايةٍ لا نريد لها أن تنتهي. كنا نجتمع هناك، في قاعةٍ لا تتسع فقط لأجسادنا، بل لآمالنا وأحلامنا الكبيرة. كنتُ الفتى الوحيد بين خمسٍ وثلاثين زهرةً، كل واحدةٍ منهن تحمل في عينيها بريقًا خاصًا، وفي ضحكتها نغمةً لا تتكرر.
كانت تلك الأيام مزيجًا من الجِدِّ والمرح، من الطموح والشغف، من الدراسة والأحاديث التي تنساب كأنها موسيقى لا تنقطع. السبورة السوداء كانت شاهدةً على كل ما كتبناه بأيدينا المرتعشة أحيانًا، والواثقة أحيانًا أخرى. كنا نكتب عليها كلماتٍ من الأدب الإنجليزي، أسماءً كـ شكسبير ووردزورث وكيتس، وكأننا نستدعي أرواحهم لتشاركنا لحظاتنا.
في كل صباح، كنا نبدأ يومنا بابتساماتٍ لا تعرف الزيف. كان الجو مليئًا بالضحكات البريئة، بالنقاشات التي تأخذنا إلى عوالم بعيدة، حيث الأدب يتشابك مع الواقع، وحيث الحلم يلتقي بالحقيقة. في تلك الأوقات، كنا نؤمن أن العالم ينتظرنا، وأننا قادرون على تغيير كل شيء بمجرد أن نحلم.
أما الفتيات، فقد كنَّ كالزهور في بستانٍ متنوع. كل واحدةٍ تحمل قصتها الخاصة، شخصيتها الفريدة، وشغفها الذي يميزها. وأنا، الفتى الوحيد بينهن، كنتُ أجد في وجودهن عالماً من الدفء والصداقة. لم أشعر يومًا بالغربة أو الوحدة، فقد كنَّ أخواتٍ لي، يعاملنني بمودةٍ تنسيك كل تعب.
وفي لحظات الاستراحة، كنا نلتف حول بعضنا، نتبادل الأحاديث والضحكات. كانت هناك أحاديث عن الحياة، عن الحب، عن المستقبل، وحتى عن الأشياء الصغيرة التي تملأ يومنا. كنا نتشارك الأحلام البسيطة، كأن ننجح في امتحانٍ صعب، أو نحصل على علامةٍ مميزة، أو حتى نخطط لمستقبلٍ نراه أجمل مما هو عليه.
لكن الحياة لم تكن فقط دراسةً وكتبًا. كانت مليئةً بالمواقف الصغيرة التي تترك أثرها الكبير. تلك اللحظات التي كنا نضحك فيها بلا سبب، أو نغني أغنيةً نعرف كلماتها بالكاد، أو نتأمل غروب الشمس من نافذة القاعة، وكأننا نرسم صورةً لنهاية يومٍ جميل.
اليوم، وأنا أتذكر تلك الأيام، أشعر وكأن الزمن قد توقف عندها. كأننا لم نغادر القاعة أبدًا، ولم نفارق أحلامنا. أعود بالذاكرة إلى تلك الساعات الطويلة التي كانت تمر كلمح البصر، إلى الوجوه التي لا تزال محفورةً في ذهني، وإلى الكلمات التي كانت تنساب كالمطر في صباحٍ مشرق.
أتساءل الآن: أين أنتم يا رفاق الزمن الجميل؟ هل تذكرون تلك الأيام كما أذكرها؟ هل ما زالت تلك الذكريات تسكن قلوبكم كما تسكن قلبي؟
لقد تغير كل شيءٍ من حولنا، لكن تلك اللحظات لا تزال خالدة. هي ليست مجرد ذكريات؛ إنها جزءٌ منّا، من أرواحنا، من قصصنا التي نرويها لأنفسنا في لحظات الحنين.
فيا جامعة بغداد، يا قسم اللغة الإنجليزية، يا قاعتنا الصغيرة التي احتضنت أحلامنا، شكراً لأنك كنتِ لنا الوطن حين كنا نبحث عن هويتنا. شكراً لأنك جمعتنا، وجعلتنا أسرةً واحدة، نعيش الحلم، ونرسم المستقبل.