في العام 1965 بدأت معرفتي بالعم إبراهيم ، رجل في مشارف الأربعين ، يعمل موظفا في جمعية الهلال الأحمر في البصرة وبراتب لا يكاد يسد رمقه. كان محاطا برجلين من الشرطة المحلية، جاءا به ليجلسوا في المقهى التي تقع قبالة مركز الشرطة ، عرفت في ما بعد أن زوجته وجدت ميتة في بيتها وقد خضع لتحقيق دقيق وسيقومون بإرساله إلى قاضي التحقيق لاستكمال الإجراءات القانونية . في اليوم التالي بحثت عن تاريخه بدافع حب الاستطلاع، لكنني لم أجد بشكل قاطع انه كان مذنبا أو بريئا، إذ لا أحد يعرفه قبل هذا التاريخ في المقهى.
بعد مضي يومين رغبت أن أمضي بعض الوقت في تلك المقهى . تذكرته وفكرت انه في زاوية ما فيها ولكن دون جدوى. بعد مضي عشرين دقيقة دخل رجل يطلب مساعدتي: ” أرجوك أن تبلّغ هذه الرسالة إلى احدهم” ثم مدّ يده في جيب سترته الزرقاء ليناولني قصاصة ورق مثبت عليها رقم هاتف من خمسة أرقام وكرر قوله ثانية: ” أرجوك. قل لهم أخرجوني براءة “
كان الرجل يبدو رصينا، إلا انه متوتر بعض الشيء, رمقني بنظرات كأنه يعرفني أو يحتقرني أو ربما كنت أتخيل ذلك . ذهبت إلى المكتب المجاور للمقهى وبيدي الورقة وتلفتت. كان الصوت القادم عبر الأسلاك بعيدا وضعيفا، لكنني سمعته يقول: “ها.. إبراهيم ” فرددت بحماس: أخرجوني براءة . رد عليّ الصوت : ” حسنا جدا . مع السلامة ” بعد عشر دقائق عدت إلى المقهى لأجلس بجانبه وقلت : انتهت المهمة يا عم إبراهيم . التفت إلي وقال: ” لقد أزعجتك أيها الفتى ” وأخذ ينظر إلي بغبطة فقلت: لا.. لا بأس، وتمتمت مع نفسي: انه الرجل نفسه الذي رأيته قبل أيام. كان عليّ أن أسأله كما هو معروف عن ذلك الموقف الذي وجدته فيه ، إلا انه بادرني قائلا : ” تلك كانت أختي الوحيدة ” عرفت انه أراد أن يكسر حاجز الصمت ، إلا انه لجأ إلى الصمت ثانية , ربما لم يكن يمتلك ما يقول: أو ربما فقد شيئا ليس في داخله فحسب، بل في نمط حياته ككل. بقي الرجل على هذه الحال إذ ظل سره فترة طويلة دون إن اعرف ملابساته رغم تردده فترة طويلة على المقهى غير إني اهتديت إلى بيته الذي يقع في الناحية الأخرى من النهر في منطقة تسمى قديما بـ (الرملة ) بيت من الطين وقد جففته الشمس حد انهيار احد جدرانه الذي يقع في محاذاة ساقية زراعية . كان البيت أشبه بمخبأ يمارس فيه حياته, أرمل، بلا أخ أو حبيب. ومنذ ذلك الوقت وأنا أحفظ تاريخه.
مرة كان يقول : ” كم هي بعيدة تلك القبور الجصية . يا لزخرفتها الفاتنة وقبابها الصغيرة فهي تفترش أديما كئيبا والأرض هناك كأنها الجانب الميت من العالم الحي ، انه جانبه القاسي والبعيد ، أنها الظلمات الخالدة ” كانت دموعه لا تتوقف وصوته يتدفق بصعوبة كلما ذكر اسمها: ” مهجة ” وكانت أصابع يده تمسك بتراب الأرض فيقول : “أنتشبث بالدنيا بأظفارنا وأسناننا ونقيم المنازل ونبني الأسوار ونسمي أبناءنا ونحتفي بنسائنا ثم نضعف مثل ناقة عجفاء ونجف مثل أواني الفخار ليحملونا بلا أسماء ولا أبناء من أرضنا الخصبة إلى أخرى ممحلة ” ثم يأخذ بالبكاء حتى يرتجف كل جسمه وكأن الأرض ترتجف من تحته وأحيانا يصرخ دون إن افهم ما يقول سوى لوعته .
في أحايين كان يهدأ فيقول : ” لم أعد أقدر على المشي ، فقد ذهبت منتصف السنة الماضية لزيارة قبرها، لكنني لم أعد أتعرف عليه فوضعت باقة الورد فوق قبر آخر وعدت إلى هنا كأنني معصوب العينين . علمت إن في الموت اختياراً وان المسببات واقعة تحت قضاء الله، ولكن أن أتوهم في وضع الورد فوق قبر آخر فذلك ما لا يقبله قلبي الذي لازمها ثلاثين عاما. ثم يتوقف ليقول: ” لكن قل هل تدخل الجنة تلك اللؤلؤة التي رموها في جوف الأرض. أنها لم تمت باختيار أو مسببات، بل أخذوها مثلما تأخذ أمواج النهر فضتها ورائحة شهدها إلى البحار “
كانت ملامح وجهه تتغير بفعل تشنجاته التي تتصاعد شدة وتهدأ كأنما هي انفجارات داخل نفسه لاتجد لها مخرجا سوى مساحة وجهه الذي تجاوز الستين ، المتعب والمحدّق دوما في البعيد . وفي أحايين كان ينام من فرط تعبه، فيزفر زفرات طويلة يعقبها زبد فمه كأنه سائل الموت الأبيض حتى لتكاد تقول انه مات حقا، فيغط في نوم عميق فوق تخت المقهى بعيدا عن بيته.
صداقتي مع هذا الرجل ربما لا يفهمها احد , لأن لغته لا يفهمها سواي , رغم انه أصبح مهجورا حزينا ولكنها ازدادت وتعمقت . كان وجهه يتجول في مخيلتي ، وحيدا منسيا ، فتارة كأنه حجر قذفه بركان وتارة اسمعه يدمدم مع نفسه ويتأوه وأحيانا يلعن فالوذ بـ ” المقام ” بعيدآ عنه أنصت إلى دعوات الرجال والنساء فارددها في قلبي : آمين . كان ذلك الإحساس بفوضى النفس يشبه ذلك الاحساس بالاضطهاد الذي رايته من أبي حينما دفن ثورتي في قبو للنسيان.
كنت أرى العم إبراهيم عند عتبة منزله كأنه شجرة صبار , تتوهج فيه رغبة بالانفجار لفرط نيران الغربة والعزلة التي ألمّت به وحينما يلقاني يأخذني معه إلى حافة النهر لصيد سمك البياح الأبيض ثم نذهب إلى المقهى لنشرب الشاي. كانت صحبتي تؤنسه فيبكي كثيرا وكأنه يريد أن يبوح بشيء و لكنه يستعيد رباطة جأشه . وفي العودة إلى بيته نجلس على العتبة فأراه يضع عصاه في شق الحائط ليستند إليها وهو يقول:
” لقد اشترت لي هذه العصا وقالت: أنها تطرد عنك الحيوانات الهمجية ليلا. لكنني استعملتها كما ترى لتطرد عني زحف الآلام من ظهري “
في ذات يوم اقتربت منه وكأنني أقترب من ميت أو من حمامة أليفة إذ رأيته وقد هدأت نفسه فخفف عني الاستعجال في الكلام فقلت : يا عم إبراهيم ، سأذهب معك هذه المرة لزيارتها وسآتي لك بالورد الأحمر الجميل لم تر مثله عيناك وسأهدي لها أجمل ما عندي فماذا تقول ؟
في أيام الحاجة لم أر شيئا يشمخ في الواقع وعبر جغرافية المدينة لم تنشق الأرض عن أعشاب ولم تنته أقدامنا إلى حافات الدياجير . كانت الأيام تلك أشبه بالعالم القديم المليء بالجوع والجفاف ، فلم أجد قلبا تصدع خشية من المستقبل وكانت غربان ذلك السجن الكبير تنهش في رؤوس الناس وصدورهم وهم غير قادرين على صنع شيء . فلم نجد غير حركة التناسل الفني لتأخذ دور الفرد . كان طلاب المدرسة المتوسطة يعدون لإقامة معرض سنوي، فاختار زملائي أن اصنع لهم لوحة باسمنا جميعا.
ما زلت احتفظ بتلك اللوحة وذكراها إذ استغرق رسمها أسبوعا كاملا , على قطعة من الورق الكارتون الأبيض مساحة نصف متر مربع . كانت اللوحة لسجناء كثيرين ، تمتد أياديهم من وراء القضبان السود . أياد قوية وطويلة ذات خطوط صفراء وسوداء ، أما قبضاتها فمكورة بعصبية إما حيطان السجن فرسمتها كأذنين كبيرتين ، كأنهما يشهدان سماع ثورتهم وصراخهم أما خارج القضبان فكانت جموع الناس تملأ الشوارع والساحة الرئيسية وقد حلقت فوق رؤوسهم غربان سود ، تنهش برؤوسهم وصدورهم كأنهم مخلفات شعوب همجية . وكانت خطوط بيضاء تجمعهم كلهم وهي بمثابة الثورة أو التمرد وقد وقف في وسطهم طفل يلتمع وجهه بضوء ذهبي امتد إلى السماء المتجهمة ، بينما انتصب البلبل بمؤخرته الذهبية فوق أحد القضبان المورقة للتعبير عن ايقاع الشعب المتناسل والذات الحية التي أرادوا الاستهانة بها ، بل موتها .
أطلق العم إبراهيم دموعه ليعانقني : ” أحقا ما تقول يا يعقوب ؟ ” كانت عيناه ميتتين منذ عشر سنين ، فقد انصرف إلى زيارتها منتصف كل سنة ، يذهب مع الزائرين في رضى يشوبه الحزن ، يحمل باقة من الورد الجوري يجمعها من حديقة ” الأمة ” أول مكان للقائهما . أجبته وقلبي تصطك إضلاعه ودموعي تنهمر حتى ظننت أنها ساعتي الأخيرة : نعم يا عم إبراهيم وسآخذك إلى سيد الشباب ، في أرضه النائية لتعيد صداقتك مع النور وستشرب من معين فرات وستنعم بالحدائق والساحات وسنجوب إنحاء المدينة كلها معا .
لم أقدر على كبح جماح دموعي حين قال : ” أتعني سأراها ثانية ، فاقبل عينيها ويديها مثلما كنت أفعل ؟ ” رميت بذاكرتي إلى الوراء قبل أن أرد عليه ، إذ أصر أبي أن لا أعطي اللوحة إلى صديقي ،
تلك اللوحة المشحونة بالثورة وقال : انك تطلق النار على نفسك انهم سيقتادونك عند أول نظرة يلقونها عليها .
* آه، يا عم إبراهيم، بلى وسيذهب التحجر عن جسمك حال جلوسك في تلك الهيبة المسالمة وسيرضى ضميرك.
ليس هناك تشابه بين لوحتي التي ما زالت في ذلك الحين ترقد في قبو البيت وبين قضية العم إبراهيم سوى إرادتهما في الحضور. ورغم إن لوحتي أصبحت من مخلفات الماضي فطوى القدر بأجنحته فوقها دون إن ترى أحدا يكلمها في ذلك المعرض، إلا إن حزني ظل بلا حدود, وبقيت في ذاكرتي.
كان انطلاق الزائرون عام 1967 حزينا كأنهم ينطلقون في نفق سحيق. كانت المدن مقفرة وكان المدى يضيق . لجأت إلى بيت العم إبراهيم الذي بدا عاليا وزاهيا لأول وهلة . طرقت الباب فاندفع لوحده لأجد نفسي في باحة المنزل كنت أصغي إلى سكون عميق وكأنني في نزهة . طرقت باب غرفته الوحيدة ، فرد عليّ صوت ذو نحيب ثم تبين في كلام : ” يعقوب ؟! ” قلت : بلى يا عم إبراهيم جئت في الموعد ، الساعة ألان السادسة صباحا والموكب لم يتحرك بعد ، هيا بنا ، فقد جئتك بباقة الورد والهدية نظرت إليه تحت ضوء الفانوس الخافت ، رأيت دموعه في فمه ولحيته ، غير انه رفع يديه ليعانقني من رقدته الشتائية . وضعت باقة الورد فوق فراشه وهممت بفتح النافذة . كانت الغيوم قد انقشعت وكأن إبراهيم يغادر عزلته وقلت : صباح الخير يا عم إبراهيم اليوم يوم جلل ، فاخلع عنك هذه الملابس ولتستحم كنت في اسعد لحظاتي دون أن أعلم السبب الحقيقي على الرغم من إنني أسمع تنهداته وأشم رائحة دموعه الرطبة التي كنت اعتبرها تحية العواطف المنتصرة . ربما لأنني حققت أمنيته أو لأن لوحتي مع باقة الورود الحمراء جمعتهما تحت ســقف واحد، أو ربـما سببه التفاهم بالآلام بين بني البشر.
كنت أشعر أن هناك شيئا غريبا يربطني به ، فصداقتي له لم تكن تهكمية ، بل متوهجة، وكانت هناك سمات بيني وبينه تحل الواحدة محل الأخرى برضي حميم إلا من ذلك الجزء البعيد الذي يذكرني بالتخلي عن معركة حقيقية مرت بلا قتال ، معركة المشاعر والأحاسيس التي نمت ونشأت في مدينة عظيمة ، لكنها سقطت صريعة الأقدار . في ذلك اليوم حلّت العواصف الأبوية محل المنازلة، فلم ينفع الأسف إزاء زملائي فتفرقوا عني احتجاجا على قتل ذلك التعبير عن ذات الحياة وتجريدهم من ذلك المنطق الوحيد للثورة.
وحانت ساعة السفر ، فحزمنا أشياءنا فوق سقف الباص الخشبي الكبير ، وكان كل مايهمني هو باقة الورد واللوحة الملفوفة بقرطاس التجليد الأسمر وقد وضعتهما فوق الرف الحديدي الأبيض الممتد فوق مقاعد الجهة اليمنى ، بينما أخذ الناس ينتظمون في مقاعدهم بانتظار بدء الرحلة .
كنت ارقب الزائرين صغارا وكبارا . كانت تجمعهم عقيدة واحدة وهدف واحد ولكنهم حتما يغرزون في ذواتهم أشياء أخرى لا يودون إن يطلع عليها البعض الأخر ، وربما بلغات أخرى يودون البوح بها عند ذلك المكان .
قضّى الزائرون نهارهم في الطريق، أما ليلهم فقد مضى تحت بريق أشعة القمر الفضية التي غطت مناطق ذلك الفردوس الأرضي بأكملها. وبين أروقة الحضرة ، أنشدنا انا وإبراهيم لغتنا الخاصة وقد انغرزت عيون الجميع في كل جانب ومكان وكأننا في بيت المصالحة مع الخير بعد رحلة نفس ضاعت في دروب الارتياب والمراوغة .
بعد الظهيرة، توجهنا إنا والعم إبراهيم نحو المقبرة واستأجرنا عربة دفع صغيرة لتقله إلى القبر. كان جهدنا ينصب على الوصول إليه وتمييزه مما تطلب أن يرافقنا أحد الدفانين في المسير بين الطرق النسيمية . كانت المقبرة بمثابة مسرح كبير، يمتد على أديم الأرض بجهاتها الأربع لتعطي انطباعا بأنها مثوى ممثلين قدماء في الحياة ناموا في عالمهم الصامت. على الرغم من إن القبور لم تكن ذات نسق مخطط له ، إلا إن المدى الرحب أعطاها تناسقا يوحي بلوحة مائية لطبيعة صامتة . وكانت طرز بناء القبور متنوعة ، إذ كل منها اقترن بجيل . كان الدليل يرشدنا إلى القبر مثلما يرشدنا فتى المصباح في السينما إلى مقاعدنا، وكنا نسير كأننا في كوكب آخر غير الأرض ، اجتزنا مسافة جد بعيدة ، كان المكان هادئا وكانت تعتريني أفكار غريبة ، ونداء خفي يسألني ويطلب جوابا مني :
ها .. أنت مع صاحبك في هذا السكون المطبق ، أتعلم من هؤلاء الذين تحت التراب ، أليس لهم أسرار ، وماهي ؟! ألا يثيرك شيء، عقيدتهم مثلا، أتراهم أوفوا بعهودهم مع الله وما الحدود التي تجاوزوها ؟
لم أستطع أن أتكهن ما إذا كان ذلك النداء هو نــــداء العقل أو الإيمان، لكنني اضطربت ولم أدر إلى أين أتوجه بنفسي وشعرت وكأن معجـزة ستحدث. بقيت حائرا أنظر إلى إبراهيم إذ لم أر أية علامة في وجهه تدل على حيرته مثلي وفجأة صاح الدليل : ” هذا قبر مهجة ابنة …” نهض إبراهيم وهو يشــد على عصاه ويدي وقال: ” ها يعقوب أرأيت إن للمقابر رهبتها وفزعها الخاص، وأحيانا تكون مكان الإفاضة بالإسرار وطلب التوبة “
نظرت إليه نظرة ريبة ، لكنه عاد ليقول ” اخرج الورد ” ثم قال ثانية: ” أترى قبرا فارغا بجانبها ، لقد حفرته لنفسي ، انه مكان ضعفي وقلة حيلتي ، لكنني سأبوح لك بما لا تعرفه لأن الخطيئة لا تمحوها سوى التوبة والنفس فانية لا محال ولا أباء في الكذب كانت السماء تجمع غيومها ثانية وكأنها تنظر إلى قربان مظلوم . تقدم إبراهيم نحو القبر وقال : ” السلام على أهل القبور ، السلام عليك يا ضحية أمك وأبيك وإخوانك ، فوالله ما حفظوا فراشهم ، بل اكتفوا ناظرين ” ثم بكى بكاء شديدا ومرا ومد لي يده وكأنه
يريد أن أشاركه بهذا العزاء وعاد ليقول مخاطبا قبرها : ” لو كان لك أخ مثل هذا لكنا في نعيم ولكنهم بأربعة أرجل أبوا أن يعيشوا إلا مع الدواب ، تبا لهم ، وخارت قواهم ” فوضع الورد فوق قبرهـا وبلله بمـــاء الورد وهو يقرأ من الآيات ” إنا من المجرمين منتقمون “
كان وجهه كالقطن وهو يضع الورد فوق التراب المتصلب متمتمآ بكلمات لا افهمها، إذ بقيت صامتا متجهما إمام ذلك الموقف المهيب، فقد طبع فهما غريبا في ذهني من ذلك البوح. انه يضع حقيقة مجهولة، بل لغز، فقد أوحى لي انه بريء مما جرى عليها، اقتربت منه لأبوح بشيء، ولكني لم أجد سوى كلمة واحدة في داخلي: ” يا رب “
كان إبراهيم مرهقا, ولا عجب، فقد امضى خمسة عشره سنة وحيدا بلا حب ولا أنيس، فمن الصعب أن تراه حيا من الداخل وصعب أن تعرف ما في قلبه. وانأ مثله فقد احترق جناحي واتلف وحري بنا أن نبوح بأسرارنا وان نضع علامات شاخصة في حياتنا وأن نأكل خبزنا بشرف . كان ذلك ما يناسبني في قولي . في تلك اللحظة وجدت إبراهيم نائما في حفرته وهو يبتسم ويقول:” أنا البريء، صوروني كالذئب، فأصيبوا بالخيبة وها أنا كما تراني في نفس السرير وان سبقتني إليه مهجة نائمة.
أرعبني ذلك المشهد ، فكأنه يكلم أحدا لا أراه. فزعت فزعآ شديدآ حينما رأيته يواري نفسه الثرى وهو يقول: ” سأغطي قلبي بشرا شفها وأجعل رأسي فوق يدها وسأقبلها بعد حين فاشهد لي عند الله يايعقوب “، وفجأة أطلق زفرة هادئة كأنه في نوم طويل…. أدركت أنني أمــام الموت المهيب. بكيت وأنا أضع لوحتي فوق صدره الهادئ كأننـــي أضع جناحي المكسور ليحلق في عالمــه الحقيقي حاملا نصف عمري ليبوح له بسري، وبصوت يشوبه النحيب صاح الدليل: البقاء لله ِ.