18 ديسمبر، 2024 7:57 م

أجساد تبحث عن وطن قراءة في رواية (بوصلة القيامة)  الروائي هيثم الشويلي‎

أجساد تبحث عن وطن قراءة في رواية (بوصلة القيامة)  الروائي هيثم الشويلي‎

سأسافر يا أمي ، سأهرب من هذا الجحيم ، سأهرب من كل شيء..حتى منك)
البحث عن الذات عبر جدلية الأنا الأخر هو بحث مرتبط بطبيعة الوجود البشري منذ بداية تشكل الوعي الإنساني القلق الباحث عن إجابات لسؤال وجودي فلسفي يبدأ  من سؤال الذات ( من إنا ) لينفتح على النحن  ليصطدم بالأخر (من أنت ) وهي تجلي  للمقولة المشهورة (اعرف نفسك) التي تولد من رحم الأنا الوجودي و يتشكل منها العالم بكل تمثلاته الوجودية  .
يحاول الشويلي من خلال بوابة   السرد الأدبي الخوض في جدلية الواقع الأنا عبر تفكيك ثنائية  الذات/ الأخر  وموضعته داخل سؤال الأنا وبالتالي إعادة بناء ذلك الواقع من خلال  الذات الساردة ( تركت كل شيء،إلا أن السؤال الذي أردت الإجابة عنه وبكل ما أوتيت من قوة التفكير والملاحظة هو أن اعرف من أنا ؟هل يعقل إني كنت ملفوفا بقطعة بيضاء أنثر دموعي على رصيف بارد في يوم شتائي ممطر )ص65.
رواية (بوصلة القيامة ) للروائي هيثم الشويلي الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام .الشارقة بطبعتها الأولى لعام 2013 ، والحائزة على المركز الثاني في مسابقة الشارقة للإبداع العربي،تمثل لحظة شك ومراجعة و توثيق وأرشفة لمرحلة ما قبل التغيير بكل ما تحمله  المرحلة من مشاهد وحشية وأساليب قمع واضطرابات نفسية واجتماعية  كانت مقدمة وسبب ونتيجة لفترة ما بعد التغيير، يلخصها الكاتب في استهلال قصير ومكثف عن موضوع الرواية (كل الروايات لم تكن أقرب من الخيال بقدر الحقيقة التي أصبحت شيئا من الخيال في مملكة الجحيم . الرواية تحكي قصة رجل تشبث بالحياة بقوة مقاتل ،رجل يملك ثلاث أمهات ورابعتهم الجدة )ص5 .
يسعى الشويلي من تحويل السرد إلى وثيقة تدين مرحلة الدكتاتورية المتمثلة بنظام البعث الحاكم بكل سطوته وأساليبه القمعية التي توزعت على كل أطياف الشعب العراقي لذلك كانت رواية بلا فصول تتيح للمتلقي التقاط أنفاسه ولو لبرهة من الزمن وهو ما يعكس اكتناز وكثافة النص المسكون بتجربة الكاتب الحقيقية  دون ترهل او إسفاف في القول ،   تدور إحداث الرواية حول قصة طفل يولد في ظل أجواء القمع والملاحقة لكل من يحاول الوقوف بوجه السلطة او يمتنع عن لانتماء للحزب الحاكم، من أب يعمل نقيب في الجيش العراقي يحاول مقاومة النظام من خلال الانتماء لأحزاب دينية  فتلاحقه السلطات التي لا يخفى عنها شيء مما يضطر ذلك الأب إلى ترك الطفل عند القابلة سهيلة  التي ستكون أمه الثانية بعد ما يترك الطفل بسبب حالته الصحية المتدهورة فتقوم القابلة بتربيته حتى أنها تضطر لتغير اسم الأب وإلام خوفا من بطش النظام ليكبر هذا الطفل وهو محمل بأعباء السلطة التي  صادرة كل شي حتى اسم الأب وإلام ليظل يعيش هذا الاستلاب الوجودي في كل مراحل حياته فكل المحاولات  التي يقوم بها  فيما بعد احمد بطل الرواية  تصطدم بجبروت وقوة النظام و محاولات التحرر من العبودية   كانت تنتهي بالتعذيب والاعتقال إي دون جدوى من استرداد ما خسرته الشخصية وهي تبحث عن هويتها المغيبة من خلال سؤال الأخر  من إنا   .
تنتظم عوالم الرواية داخل  زمكان معارض لشكل السلطة حيث تدور ابرز إحداث الرواية في أماكن مابين منطقة الدجيل وشارع فلسطين ومدينة الثورة وصولا إلى محافظة الناصرية التي تشكل معقل المعارضة الرئيس الذي أشبعته السلطة قمع و تهميش مرورا بالسجون والمعتقلات التي اشتهر بها النظام، تتحرك الإحداث داخل زمن دائري مغلق بفعل القمع المستمر للحريات لذلك كان الزمن مغلق على شخوصه  يرسم دوائر الموت والتعذيب التي كانت تدفع كضريبة موزعة على كل من يحاول الاحتجاج والتمرد( وما كنت اعلم أن الوقت يسير بسرعة كبيرة إلى هذا الحد ) وحتى سفر بطل الرواية احمد إلى خارج العراق انتهى بالعودة والسجن والتعذيب وكأننا إمام زمن ثابت.
تندرج الرواية ضمن تيار روايات  الواقعية النقدية التي تحاول نقد كل إشكال السلطة والحكم لذلك نجد إن السرد يعتمد الدقة والمباشرة في روي الإحداث ،اعتقال ،غياب ،سجن ،إفراج وهي رموز كان النظام يصنع وجوده من خلالها  كما ان  أسماء الأشخاص هي لها وجودها الحقيقي في الواقع ،  احمد ابن النقيب جليل، سعاد ،سهيلة ،جبار، يستعين الراوي البطل في وصف كل شيء تقريبا بعين عاشت كل هذا الوجع الوجودي  مرورا بأدق التفاصيل ، استخدم تقنية الفلاش باك في روي الإحداث (ربما كان يوما من أيام الألم ، لا اشك قط في إنني كنت عائقا لوالدي )ص7 تنوعت أساليب الروي مابين ألشفاهي حكايات المعتقلين فيما بينهم والكتابي رسائل وتقارير اعتقال وما مابين سرد ذاتي بطرقة المتكلم  الأنا و طريقة المخاطب  انتم  في محاولة لجعل النص يرصد كل مساحة القمع ليشمل  كل من انكوى بنار القمع  وصودرت حقوقه وفي نفس الوقت  لإدانة كل من شارك في بقاء هذا النظام وسانده سواء بالصمت ام بالدعم والمشاركة (وقف لي أحدهم في الصف السادس الابتدائي لينعتني باليتم ، واخر صاح اتركه فهو لقيط )ص101 .
تقوم ثيمة الرواية على ثنائية الأنا المقموع  الطفل المواطن  أمام الأخر القامع الحاكم الطاغية  بكل دلالاته الفكرية والنفسية والاجتماعية المتمثلة في حجم التضحيات كقرابين مقدمة لبقاء الحاكم  والتي  تبدأ من الذات الفرد المواطن المستلب   إمام  الأخر حاكم مستبد دكتاتور  وهي ثنائية تتناسل منها ثنائيات على كبر مساحة الوطن وهو ما ساعد على جعل فضاءات السرد تنفتح على عوالم زمنية متعددة تمتد لتشمل ثلاث حروب خاسرة خاضها النظام الحاكم طيلة فترة حكمه الحرب العراقية الإيرانية ، غزو الكويت الأولى ، وحرب 2003،   حيث تتشكل هذه الفضاءات عبر الأنا التي تنفتح على النحن الذي يرمز لكل من عارض او اعتقله النظام يتضح ذلك في  سؤال من احمد بطل الرواية   الأحد المعتقلين عن المكان الذي اعتقل فيه ( نحن ألان في مديرية الأمن العامة … علمت حينها انه من رواد هذا المكان )ص121  والأخر ينفتح على الهم أزلام الطاغية ويده الضاربة .
لغة الرواية لغة حسية  مباشرة حافلة بالتوجع حتى ان المتلقي يشعر معها بالوجع وبحجم الحيف والظلم الذي أصاب جميع العراقيين لغة صادقة وصادمة في وقت واحد  من هول الوحشية والبشاعة ،يروي البطل لحظة اخذ سالم الشيوعي المثقف الذي كان يتلقاه حرس السجن قائلا (سنطهر رأسك العفن من هذه الأفكار النتنة فكانوا (يداوونه) بالكي لإتلاف خلايا دماغه )ص132
الرواية بمجملها تمثل وثيقة  تدين نظام حكم أوغل في تدمير شعبه (وطن منهوب وشعب منكوب ) نظام لم يسلم من عذباه احد حتى المقربين منه ،وقد وفق الكاتب وأجاد في فضح أساليب النظام وإطماعه بكل شبر من ارض العراق إلا إن ذلك لا يمنع من القول ان الرواية كانت تفتقر للجوانب الفنية في بعض مفاصلها رغم أنها تميل في بعض مفاصلها لنسخ للواقع كما هو أضافه إلى كون مساحة المتخيل كانت مساحة ضيقة اقتصرت في أماكن قليلة أظن ان الكاتب سعى منذ البداية إلى ان تكون رواية تفاصيل حقيقية (وثيقة ) أكثر منها عملية خلق لواقع مختلف، لكن ذلك لا ينفي كونها رواية ناجحة في إثبات وجودها كعمل روائي مميز كما و قد ساهمت في  كشفت هول الوحشية والعذاب الذي مزق نسيجنا الاجتماعي والإنساني طيلة سنين الحكم وعليه نحن أمام رواية تحمل بين طياتها العديد من الإجابات التي تدين كل شيء السلطة والمجتمع الذي أنتج السلطة  والتاريخ الذي رسخ مفهوم السلطة المستبدة (وأنا أنظر إلى بوابة السجن ، مازلت لا أصدق إلا حين ÷ابتعدت كثيرا ، هأنذا أولد من جديد وأنا لا أصدق هذا ، لأنني مازلت أركض وأتعثر) .