23 ديسمبر، 2024 7:12 م

أجراس الزوال أو الرحيل

أجراس الزوال أو الرحيل

سعد سلوم يؤرخ الذاكرة المسيحية العراقية
اصدرت مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والأعلامية MCMD كتابا قيما هو ” المسيحيون في العراق – التاريخ الشامل و التحديات الراهنة ” . حرره و ساهم فيه و جمع ارشيفه الأكاديمي و الناشط في مجال الدفاع عن التعددية الباحث العراقي ” سعد سلوم “

كتاب ” المسيحيون في العراق ” طبع في بيروت عام 2014 ويقع في 816 صفحة من القطع الكبير 17 ء 24 سم .

يعتبر الكتاب مرجعا و أرشيفا قيما يضم بحوثا تاريخية وإجتماعية عن جماعة أصيلة في العراق لباحثين أكاديمين و مؤرخين ورجال دين وآثاريين عراقيين إستكتبهم سلوم لتقديم تصور شامل عن تاريخ المسيحيين في العراق منذ القدم ، وقدمت هذه المساهمات المتنوعة خريطة واسعة من تاريخ و تراث المسيحيين في بلاد ما بين النهرين.

قدم سلوم الكتاب بعبارة تضمنت سؤالا حول تلازم بقاء و وجود العراق مع جذوره المسيحية ، إذ كتب ” إذا كانت شجرة العراق مسلمة ، فإن جذورها مسيحية ، هل يمكن أن تعيش شجرة من دون جذورها ؟

تضمن الكتاب ستة أقسام او فصول إضافة إلى المقدمة التي كتبها سلوم وطرح فيها سؤالا جوهريا وهو ” هل يمكن تخيل الشرق الأوسط من دون مسيحيين ؟” حيث رسم فيها صورة مروعة عن نهاية المسيحية بقوله : ” و تحمل الأحصائيات دلالات مرعبة ، إذ لم يتبق من مسيحيي تركيا الذين كانوا يعدَون بالملايين بداية القرن العشرين إلا بضعة آلاف ، و في سوريا وصلت نسبتهم إلى أقل من عشرة بالمائة ، بعد أن كانوا ثلث عدد السكان في مطلع القرن الماضي ، و في لبنان بعد أن كانوا أغلبية في ثلاثينات القرن الماضي ، أصبحوا الآن أقل من ثلاثين بالمائة من السكان ، و في مصر ، و لأول مرة منذ الخمسينات ، يغادر الأقباط أرضهم بأعداد كبيرة ، وفي فلسطين تضاءلت نسبتهم بعد أن كانوا أكثر من عدد المسلمين هناك …. ” أما عن العراق فقد كان عدد المسيحيين قبل عام 2003 أكثر من مليون و نصف المليون أصبح الآن عددهم لا يزيد عن نصف مليون نسمة .

بعدها يبدأ الكتاب بفصل كتبته الدكتورة سها رسام يؤرخ ل ” جذور المسيحية في العراق ” تناولت فيه تاريخ نشوء المسيحية في بلاد ما بين النهرين و تأسيس كنيسة المشرق وإنتشارها في بلدان الشرق

حمل القسم الأول من الكتاب عنوان ” خريطة الآثار و المدن و الطوائف ” تضمن فصلا مهما كتبه الأثاريان عبد الأمير الحمداني و حكمت بشير الأسود تناولا فيه دخول المسيحية في العراق و إنتشارها في أقطار الشرق ،كما تحدث الباحث فؤاد قزانجي أيضا عن اهم مدن العراق المسيحي و البلدات القديمة التي نشأت فيها المسيحية مثل كشكر ، قطيسفون ، الرصافة ، البصرة ، ميشان ، كربلاء ، تكريت ، منطقة الحيرة ، حدياب أربل ، وغيرها و لأديرة و الكنائس التي إنشأت في هذه المدن وغيرها من مدن العراق ، كما تناول الباحث في شؤون اللاهوت و الحوار بين الأديان الدكتور خوشابا حنا الشيخ موضوعا تضمن خريطة الطوائف المسيحية في العراق ،. ومن الجدير بالأشارة توثيقا أن كنيسة المشرق كانت من السعة و الأنتشار بحيث بلغ عدد أبرشياتها أكثر من 250 أبرشية خلال بضعة قرون منتشرة في ربوع العراق و الشرق الأوسط و الشرق الأقصى حتى أقاصي الصين

أما القسم الثاني الذي حمل عنوان ” مسيحيو العراق في ظل الحكم الأسلامي ” تصدره فصل قصير كتبه غبطة البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية متحدثا عن مساهمة المسيحيين في بناء الحضارة الأسلامية العربية ، كما تحدث الأب الدكتور بطرس حداد عن مسيحيي بغداد في ظل الحكم العربي الإسلامي ، أما الدكتور سامي ناظم حسين المنصوري فقد ساهم في هذا القسم بموضوع ” مسيحيو العراق في ظل الدولة العثمانية ” محللا فيه وضع المسيحيين في ظل التشريعات العثمانية المختلفة والتي تخص المسيحيين بمختلف طوائفهم .

أما القسم الثالث فقد تناول حالة المسيحيين في العراق المعاصر ( 1921 – 2003 ) ، وبرأيي هو من أهم أقسام الكتاب ، ساهم في كتابته الباحث هيثم محي طالب عن موضوع ” المسيحيون في العراق في العهد الملكي ” ، أما الدكتور عدنان زيان فرحان فقد تحدث بإسهاب عن ” القضية الآشورية و تداعياتها في العراق الملكي ” و ختم القسم الثالث محرر الكتاب ” سعد سلوم ” في فصل حمل عنوان ” المسيحيون في العراق الجمهوري 1958 – 2003 ” تناول فيه خريطة الأنتشار جديدة للمسيحيين بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث أدت الصراعات السياسية في عهد عبد الكريم قاسم وخاصة أحداث العنف في مدينة الموصل عام 1959 إلى بداية هجرة المسيحيين داخليا من مدينة الموصل إلى مدينة بغداد ، كما هاجر العديد إلى خارج العراق ، ويؤكد الباحث سلوم أن تلك الأحداث المؤسفة في الموصل خلقت الضغائن و الأحقاد وتمزيق و شائج الإلفة و المحبة بين أبناء الأديان المختلفة . ومن الأسباب الأخرى التي أدت بالمسيحيين إلى الهجرة هي الحرب العراقية الأيرانية و تداعياتها ، إحتلال العراق للكويت و الحصار الأقتصادي الذي فرض على العراق نتيجة لذلك و تردي الأحوال الأقتصادية للبلد ، و هيمنة الدولة على شؤون الطوائف الدينية المسيحية

المختلفة ضمن قوانين و تشريعات أصدرتها بهذا الخصوص ، الحملة الأيمانية عام 1994 كل هذه الأحداث أدت إلى تصاعد وتيرة الهجرة لدى المسيحيين إلى خارج العراق

أما القسم الرابع فقد تصدره موضوع ” المسيحييون في أعقاب التغيير في العراق 2003 ” للباحث وليم وردا تناول فيه مسؤولية الدولة في حماية الوجود المسيحي ، مؤكدا أن أهم وظائف الحكومات هي حماية شعوبها و مواطنيها ، وقد تطرق الباحث على مطالبات المسيحيين إلى الحماية الدولية و الحكم الذاتي لهم . يقول وردا : ” وما يتعلق بالمسيحيين العراقيين ، فقد دفعت أعمال العنف الواسعة النطاق ضدهم خلال السنوات العشر الأخيرة بعد عام 2003 ، من أعمال قتل و إختطاف و تفجير كنائس و قتل رجال الدين إلى زيادة معدل الهجرة إلى درجة بات هذا النزيف يهدد مصيرها ووجودها ، … ” ، ” أن موجات الهجرة غالبا ما كانت تحصل بعد كل تحول سياسي … لكن سنوات ما بعد الأحتلال عام 2003 كانت هي الأقسى و الأكثر هجرة … ” ، ويستطرد وردا ، فيقول : ” وتشير بعض التقارير التي تصدرها منظمات دولية المهتمة بحقوق الأنسان أن أكثر من 700 ألف مسيحي هاجروا العراق خلال السنوات العشر الأخيرة لا سيما بعد إستهدافهم بشكل متكرر من جماعات إرهابية متطرفة بإسم الأسلام السياسي …. ” .

أما القسم الخامس فقد تناول ” مستقبل الوجود المسيحي بين الحضور و الأضمحلال ” ساهم فيه الدكتور فائز عزيز أسعد في بحثه الموسوم ” نحو تجديد الدور العربي المسيحي ” . تناول فيه التعريف بالعرب و عن موطنهم و إنتشارهم و دياناتهم التي توزعت عقائدهم بين آلهة عدة قبل إعتناقهم المسيحية أو الأسلام ، و يقسمهم الباحث إلى ثلاثة أقسام : العرب البائدة ( مثل قيدار ، و ميديان ، و عاد و ثمود ) و العرب العاربة (عرب شمال و جنوب الجزيرة العربية و يعرفون بالقحطانيين ، وهم العرب المتحظرون ) أما القسم الثالث من العرب فهم العرب المستعربة ( عرب وسط الجزيرة العربية ويعرفون بالعدنانيين ، وهم العرب البدو الرحل ) . يقول الباحث أن المسيحية أنتشرت بين العرب منذ القرن الأول الميلادي عن طريق القوافل في بادية الجزيرة و الموصل و أرض السواد ، وإستقر الكثير منهم في الأنبار و الحيرة وعاقولا وبادية الشام كجزيرة بن عمر و ديار بكر بن وائل . كما يتحدث الباحث في هذا الفصل عن العرب المسيحيين في العهد الأسلامي التي عزا دخول الكثير من المسيحيين الدين الأسلامي بسبب عجزهم عن دفع الجزية التي كانت تعادل نصف ثروتهم ، و يستخلص أن الوجود العربي المسيحي قد تضعضع في عهد الخلفاء الراشديين حيث تفرقت القبائل عن كنائسها .

وختم محرر الكتاب ” سعد سلوم ” هذا القسم بفصل ختامي حمل عنوان ” نحو تعزيز الحضور المسيحي في العراق و الشرق الأوسط ” . متحدثا عن أوضاع المسيحيين

وحيادية الدولة العراقية بعد التغيير الذي حدث عام 2003 وأحداث العنف التي طالت المسيحيين التي وضعتهم امام خيارات أحلاها مر ألا وهي الهجرة ، ثم تناول طروحات تأسيس منطقة آمنة لهم ، ثم تطرق إلى الذمية و التمييز كجزء من الثقافة الطارئة للمسيحيين والمطالبة بالمساواة وعدم التمييز ومحاولة فرض قيم بديلة لتأكيد قيم المواطنة على قاعدة الأعتراف بالتعددية ، وختم هذا الفصل في طرح ” علامات ولادة جديدة لمسيحيي العراق ” مناقشا رؤية البطريرك ساكو في ” التجذر ” و ” المعية ” أي بقاء المسيحيين في العراق و العيش المشترك مع بقية المكونات ويؤكد سلوم : ” فمن دون المسيحيين لا يمكن تخيل العراق دون هوية تعددية ” .. كما ركز على الحوار بين المسيحيين و المسلمين لمواجهة التمزق الطائفي . مشيدا برسالة البطريرك ساكو في رسالته الراعوية بمناسبة الذكرى الأولى لرسامته بطريركا ، مقتبسا منها : ” فمسيحيو العراق ، جزء من هذا النسيج العراقي و المشرقي ومن حضارته العريقة ، و يرتبطون بإخوتهم المسلمين و الصابئة و الأيزيديون ، ويبقون شهود محبة و سلام ، و تعاون و إزدهار ، مهما كانت الظروف و الأسباب ، هذه أمانة إيمانية و وطنية و أخلاقية ، وجودهم في غاية الأهمية للشرق العربي و الإسلامي بسبب إنفتاحهم و إخلاصهم و أخلاقهم . ” كما ناقش فكرة البطريرك ساكو في تأسيس رابطة كلدانية التي تمهد لوحدة مسيحيي العراق . كما تضمن الكتاب ملحقاً عن المسيحيين في الرواية العراقية. لاسيما بعد 2003

أما القسم السادس والأخير من الكتاب 343 صفحة ( ص 467 إلى ص 810 ) فقد تضمن تشريعات وإحصائيات ووثائق تخص مسيحيي العراق والتي صدرت منذ بداية الحكم الوطني عام 1931 م و لغاية 2014 جمعها المحرر سلوم في جهد متميز ومشكور عليه الذي يعتبر أرشيفا مهما لمسيحيي العراق خلال القرن المنصرم ومصدرا ثرا للباحثين و المؤرخين

وقد تضمنت هذه الوثائق ما يلي :

كنائس الطوائف المسيحية في العراق ، القرى المسيحية المدمرة للفترة 1963 – 1988 ( 196 قرية في محافظاتي دهوك ونينوى ) ، كنائس تم تدميرها خلال الفترة 1976 – 1997 ( 24 كنيسة أغلبيتها في محافظة دهوك ) ، رجال دين تمت تصفيتهم في الفترة 1972 – 1989 ( بطريرك واحد ، مطرانين و 5 كهنة ) ، المختفون في عمليت الأنفال عام 1988 ( 150 شخص ) ، مسيحيون مفقودون أثناء النزوح الجماعي من كردستان العراق في آذار عام 1991 ( 31 شخص ) ، وثائق و تشريعات خاصة في النصف الأول من القرن العشرين ، خطاب المعاون البطريركي يوسف السابع غنيمة أما لجنة عصبة الأمم في لواء الموصل 1925 ، قوانين تخص الطائفة الأرمنية ، قانون تنظيم المحاكم الدينية للطوائف المسيحية و الموسوية لسنة 1947 ، قانون منح الحقوق الثقافية للمواطنين الناطقين باللغة السريانية رقم 251 لسنة 1972 ، قانون وزارة الأوقاف و الشؤون الدينية 1981 ، قرار منع العراقي عربي القومية من تغيير قوميته إلى قومية أخرى ( 17تشرين الثاني 1988 ) ، وثائق

و تشريعات خاصة بعد العام 2003 ( بيان مكتب سماحة السيد على السيستاني حول التعرض للكنائس المسيحية في بغداد و الموصل ، مقترح مسودة قانون الحكم الذاتي للكلدان السريان الأشوريين في إقليم كوردستان ، قرارات المحكمة الأتحادية حول تمثيل المسيحيين في مجلس النواب ، قانون الأحوال الشخصية لمسيحيي العراق ، بيانات مجلس رؤوساء الطوائف المسيحية في العراق 2006 – 2014 ، قانون أوقاف المسيحيين والإيزيديين و الصابئة المندائيين ، رسالة راعوية لغبطة البطريرك ساكو بمناسبة مرور سنة على إنتخابه ،

وكان مسك الختام كلمة إخيرة كتبها محرر الكتاب رسم فيها ” علامات شرق أوسط من دون مسيحيين ؟ “

هذا عن الكتاب ، أما عن المحرر، فإن الباحث العراقي ” سعد سلوم ” خلفية متنوعة من النشاطات و المؤهلات ، ففضلا عن كونه أستاذا في كلية العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية – بغداد ، فهو باحث قدير و متخصص في شؤون و تاريخ الأقليات ( المكونات ) العراقية ، وهو عضو اللجنة العلمية لأكاديمية بغداد للعلوم الأنسانية بإدارة الأباء الدومنيكان ، وأسسوأدار مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية و الأعلامية ، حرر مجلتها الفكرية الثقافية ” مسارات ” التي أصدرت عددا خاصا عن مسيحيي العراق في العام 2009 و أعادت طبعه في العام 2010 ، و الأهم من ذلك أن سلوم هو أحد مؤسسي المجلس العراقي لحوار الأديان ، وهو إطار ضم ممثلي الأديان في العراق ، فضلا عن كونه مؤسسا للعديد من المبادرات المدنية التي تخص المجتمع العراقي بصورة عامة مثل مبادرة الحوار الإسلامي المسيحي التي إنطلقت بعد جريمة كنيسة سيدة النجاة . وأطلق سلوم مشروعا لدراسة التعددية في العراق بدأه بأرشفة و تحرير كتاب لا يقل أهمية يتناول مكونات الشعب العراقي هو ” الأقليات في العراق – الذاكرة – الهوية – التحديات ” وقد صدر باللغتين العربية و الأنكليزية ، صدر بثلاث طبعات بين 2013-2014 ، ويعد كتاب ” المسيحيون في العراق ” هو الرابع في تسلسل المشروع .

كما لسلوم العديد من الأفلام الوثائقية كان أهمها فيلم ” أقلية في خطر ” الذي تناول إستهداف المسيحيين ، و بالأخص الجريمة الأرهابية التي حدثت في كنيسة سيدة النجاة في بغداد عام 2010 وراح ضحيتها العشرات من المسيحيين أدت بالنتيجة إلى هجرة آلاف العائلات المسيحية من بغداد خاصة و العراق عامة في فترة قصيرة بعد حدوث هذه الجريمة .

في النهاية نؤكد على أن الكتاب برمته مهم و لا يستغنى عنه لغزارة مادته و قيمته البحثية و مصداقية مادته ، و هو جدير بالقراءة و الأقتناء ويعتبر مصدرا للباحثين و الدارسين و المهتمين بتاريخ مسيححي العراق ، فقد كان الكاتب و الأكاديمي ” سعد

سلوم ” موفقا في توثيق ذاكرة مسيحيي العراق قبل أفول شمسهم في العراق وإلذي إضطر غالبيتهم قسرا لترك و طنهم العزيز مثوى آبائهم و أجدادهم منذ آلاف السنين .