17 نوفمبر، 2024 2:46 م
Search
Close this search box.

أثر اتّباع الأهواء على حياة الإنسان وسلوكه

أثر اتّباع الأهواء على حياة الإنسان وسلوكه

للضلال أسباب كثيرة وعوامل، حسبما تجري به سنة الله في عباده من ترتيب النتائج على مقدماتها واتباع المسببات لأسبابها، وقد تكون هذه الأسباب والعوامل فكرية، أو نفسية، أو أخلاقية، وقد ترجع إلى التأثر بالوراثة أو البيئة، أو النشأة أو طبيعة الحياة التي يحياها صاحبها أو غير ذلك من الأسباب والعوامل.
لقد جرت سنة الله تعالى في الهداية والإضلال أن يكون اتباع الهوى سبباً من أسباب الضلال. قال تعالى: ” وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (القصص : 50) . وقال سبحانه:” وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ” (الأنعام: 119) . وقال سبحانه:” وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ” (ص: 26) . وقال عز وجل:” أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” (الجاثية: 23) .
والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجاً عجيباً للنفس البشرية حيث تترك الأصل الثابت وتتبع الهوى المتقلب، حين تتعبد هواها وتخضع له، وتجعله مصدراً لتصوراتها، وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها، وتقيمه إلهاً قاهراً لها مسؤولاً عليها، تتلقى إشارته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول، يرسم هذه الصورة ويعجب منها في استنكار شديد ” أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ” ؟ أفرأيت إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب، وهو يستحق من الله أن يضله، فلا يتداركه برحمة الهدى فما أبقى في قلبه مكاناً للهدى وهو يتعبد هواه المريض” وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ” على علم من الله باستحقاقه للضلالة، أو على علم منه بالحق لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلهاً يطاع، وهذا يقتضي إضلال الله له، والإملاء له عمياه ” وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً” فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور، وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى، وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعته للهوى، طاعة العباد والتسليم ” فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ” والهدى هدى، وما من أحد يملك لأحد هدى أو ضلالة، فذلك من شأن الله الذي لا يشاركه فيه أحد، حتى رسله المختارون، ” أَفَلَا تَذَكَّرُونَ” ومن تذكر صحا وتنبه وتخلص من ربقة الهوى، وعاد إلى النهج الثابت الواضح، الذي لا يضل سالكوه. (في ظلال القرآن، 5/ 3230)
وهذه السنة سنة الله في إضلال من اتبع هواه تحققت في أقوام سابقة وستمضي دائماً في كل قوم يتبعون أهوائهم ويحيدون عن الحق. (السنن الإلهية، 1/ 171)
قال تعالى:” فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ” (القصص: 44) . وقال تعالى:” وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى” (النازعات: 40 ـ 41) .
وقد حذر الله عز وجل نبيه داود عليه السلام من أن يؤثر هواه في قضائه بين الناس على الحق والعدل فيه فيكون نتيجة ذلك ميله عن طريق الله الذي جعله الله عز وجل لأهل الإيمان به، فيكون من الهالكين بضلاله عن سبيل الله، قال تعالى:” يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ” (ص: 26) .
وقال تعالى محذراً خاتم الأنبياء والمرسلين من طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره، واتبع هواه المتقلب وآثره على الحق. قال تعالى:” وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا” (الكهف: 28) .
ومن المواطن التي حذر الله عز وجل عباده من اتباع الهوى فيها ما جاء في قوله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا” (النساء: 135) .
ـ وقال تعالى:” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْعَن سَوَاء السَّبِيلِ” (المائدة: 77) .
وقال تعالى مبيناً عدم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم للهوى تجنباً لما يستتبعه الهوى من الضلال:” قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ” (الأنعام: 56) .
ـ وقال تعالى:” وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” (الأعراف: 175 ـ 176) .
وهكذا يتبين لنا بجلاء أهمية الهوى، وإن الوقوع في ذلك وقوع في الضلال وبالتالي الوقوع في الفساد الشامل للسماء والأرض ومن فيهم كما قال تعالى:” وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ” (المؤمنون: 71) .
فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة، وبالحق الواحد يدبر الكون كله فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة، ولو خضع الكون للأهواء العارضة والرغبات الطارئة لفسد كله، ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس، وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى والحب والبغض والرغبة والرهبة والنشاط والخمول وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات، وبناء الكون وبما فيه الإنسان يحتاج إلى الثبات والاستقرار والاطراد على قاعدة ثابتة، ونهج مرسوم لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد. (في ظلال القرآن، 4/ 2475)
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “الإيمان بالقدر”، للدكتور علي الصلابي، واستفاد كثير من معلوماته من كتاب: “السنن الإلهية”، للدكتور عبد الكريم زيدان.
المراجع:
أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، الطبعة الأولى، 2015م.
السنن الإلهية، عبد الكريم زيدان.
في ظلال القرآن، سيد قطب.

أحدث المقالات