كثيرا ما سمعنا عن مصاعب السفر، وتحديدا السفر عبر البحار، وأظن صعوبة السفر بحرا دون البر، أتت من الأرضية التي تقل المسافر، إذ أنها تختلف عن بيئته المعتادة وهي اليابسة. الأمر الذي دفع الواصفين تصوير البحر بأنه عالم خاص يتطلب رجالا -أو نساءً- بقابليات خاصة، قد يحملها بعضنا وقد يفتقر اليها بعضنا الآخر لأسباب عدة. وخصوصية عالم البحار هذه دفعت راكبيه الى التحلي بشمائل تختلف عن متوطني اليابسة، كذلك كونت قسوة العيش على أمواجه أفكارا ومبادئ تختلف عن قاطني بر الأمان. وهناك مقولة يكررها دوما الأشخاص الذين تكون مهنتهم او طبيعة عملهم في البحر، كأفراد طواقم السفن والباخرات والبوارج، لاسيما الذين يتنقلون في سفريات تستمر أسابيع أو أشهرا في المحيطات عابرين خلالها قارات، تلك المقولة هي: (البحر الهادئ لايصنع بحارا ماهرا)
وبذا تكون في البحر متلاطم الأمواج دروس وعِبَر لمن يركبه، فان كان ملاحا ستزيد المحن التي يمر بها والصعاب التي يواجهها من خبرته في قيادة السفن، وان كان سائحا او مسافرا فان مايمر به من ظروف على متن سفينة في بحر هائج ستقوي من رباطة جأشه، ومن جلادته في تحمل الظروف القاسية التي قد تحيق به وتحيطه من حيث يدري ولايدري، وستعلمه الصبر على المحن وبالتالي يتولد لديه انطباع ان لكل شدة أجلا في انتهائها.
ما ذكرني بالبحر وهيجانه هو ما وصلت اليه سفينة عراقنا اليوم، بعد سنين من الإبحار في بحور سحيقة القرار، حاملة على ظهرها أكثر من ثلاثين مليون نفر، جلـّهم لايطمحون أكثر من الوصول الى مرفأ الأمان، وبر يجدون فيه عيشا كريما يليق بمواطن له من جدوده حضارات، كانت فنارا تهتدي به أمم المغرب والمشرق. وبحكم من تسلطوا على رقاب هذا البلد، وبسياساتهم المدروسة والمغرضة، ضاعت أشياء كثيرة وتغيرت ثوابت عديدة، آلت بمركب البلد وأهله الى التأخر عن مركب الأمم والبلدان في التحضر والتقدم في مفاصل البلد جميعها، وكلما ولى عهد سيئ أقبل عهد أكثر سوءا، كذلك كلما استبدل حكامه بآخرين، كانت النتائج أكثر وبالا على أبناء البلد. وأظننا بعد هذي السنين والتجارب كلها، بتنا نجسد قول شاعرنا الرصافي:
فأنا اليوم كالسفينة تجري
لاشــراع لهــا ولا مــلاح
اليوم ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ترفل دول العالم بالعيش الرغيد، مهنئة شعبها بوسائل الحياة المرفهة تكنولوجيا وطبيا وتربويا وثقافيا، وما الى ذلك من وسائل العيش المطلوبة، وقد آن الأوان أن يلتفت ربابنة سفينة العراق الى مصلحة البلد، والعمل على كل ما من شأنه تقديم الأفضل والأنسب له، وفق المتطلبات والتطورات الزمانية والمكانية، وهذا بدوره يتطلب عمل طاقم هذه السفينة بكل أفراده بطاقتهم القصوى، وكل ضمن اختصاصه ليؤدي دوره في رفد عمليات بنائه، للحاق بركب الدول التي سبقته بالتطور العمراني والعلمي والتحضري في مجالات الحياة كافة.
وبعودة الى مقولة البحارة، أرى ان الذي مر به العراقيون كفيل بصناعة أشخاص مهرة أيما مهارة، وقد آن الأوان لتطبيق ماتعلمناه من الشدائد والمحن التي أغدقها علينا ساسة وحكام، لم يألوا جهدا في إذاقتنا فنون الاضطهاد والقمع والحرمان من أبسط حقوق المواطنة المشروعة. كذلك هو واجب وطني ومهني وإنساني وأخلاقي، تقع مسؤوليته الأولى على كل من تسنم منصبا في هرم الدولة، وعليه أن يدير مامنوط به من واجبات على أتم حال وأحسن وجه، وعليهم جميعا أن يعوا أن المركب إن غرق سيغرق ركابه جميعا، ولن تنفع حينها مهارة ملاح او اثنين او ثلاثة، او حتى عشرة، ورحم الله شاعر الأبوذية الذي حاكى بها بيت الرصافي حيث قال:
على نغم الوتر يا صاح ملهه
سقيم وعلتي لقمان ملهه
صرت أشبه سفينة ببحر ملهه
ملاح وبليه شراع هيه