لا تغيب عن البال صورة الهيجان الشعبي العارم الذي اندلع صبيحة الرابع عشر من تموز. فلم تبق مدينة ولا قرية ولا حارة ولا شارع ولا مؤسسة لم تنفلت عواطف ناسها وتنفجر افراحهم، دون أوامر من وزارة أو حزب أو مخابرات. من جميع الطوائف والقوميات والأديان والمناطق، من شمال الوطن إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، ولم تسكت المظاهرات والاحتفالات إلا بعد نداءات والتماسات من الحكومة الجديدة تدعوهم إلى الهدوء والسكينة.
ونفس الشيء حدث يوم عودة البعث إلى السلطة في 1968. فقد نسي العراقيون جرائم البعثيين والحرس القومي، وما جرته عليهم أيام حكمهم القصير من اعتقالات وتعدذيب ومصادرات وتجاوزات. حتى أن الحزب الشيوعي والحزب الديمقراطي الكردستاني دخلا معه في جبة وطنية واحدة، وهما يعرفان أكثر من سواهما أنه لا يؤتمن.
طبعا لا يوجد حزب بدون أخطاء تكتيكية، وقد تكون تلك الخطوة من الحزبين محاولة لاحتواء صدام وترويضه، لكنه سرعان ما غدر بشركائه في الجبهة الوطنية المزعومة، ومزق لحوم قادتهما وأعضائهما، وأخفى منهم الآلاف في سجونه ومعتقلاته، وشرد الملايين، وأرسل إلى الكرد وحلفائهم بمئات الألوف من الجنود، ومئات الدبابات والطائرات، لقتالهم، ودك مدنهم وقراهم، تحت شعار حماية وحدة الوطن وسيادته من المتمردين.
والفرح نفسه اندلع في العراق يوم سقوط نظام صدام حسين بدبابات أمريكية وأموال أمريكية وجنود أمريكان. فقد خرجت الجماهير تهتف للجنود الأمريكان، وتنثر الزهور على دباباتهم، فرحا بالحرية وابتهاجا بسقوط الديكتاتور، وسط وعود الحكام الجدد بالحرية والعدالة والديمقراطية، وبالفردوس المفقود.
ثم حدث الشيء نفسه في تونس، وحدث في مصر، وحدث في ليبيا، وسوف يحدث في سوريا يوم سقوط بشار عن قريب.
وبالتدقيق الموضوعي يمكن القول إن هناك عاملين دفعا بالجماهير، في كل هذه الحوادث والتواريخ، إلى الهيجان وانفلات المشاعر والفرح الغامر بهذه التغريرات والتبدلات ، حتى لو كانت بانقلابات عسكرية، او انتفاضات مسلحة، وحتى لو كانت بدعم ومساندة ومشاركة أجنبية في أغلب هذه الحالات.
الدافع الأول يتعلق بالطبيعة البشرية الميالة دائما إلى التبديل والتغيير. والثاني نابع من حجم الظلم والقهر والفساد في زمن الأانظمة الساقطة، ومن وعود القوى الجديدة بالحرية والكرامة والعدالة والمساواة والرفاه والازدهار.
ولكن في جميع النماذج تلك كانت مشاعر الندم وخيبة الأمل والشعور بالمرارة تصيب المواطنين من الاوضاع الجديدة، وتدفع بهم إلى الحسرة على الماضي، برغم فساده الذي جعلهم يثورون عليه ويتمنون زواله.
فلا يطول الزمن حتى يختلف حكام العهد الجديد فيما بينهم وتبدأ الشتائم والاتهامات المتقابلة بالخيانة والعمالة والاستغلال، وربما تنهمرالقنابل، وتنتشر المفخخات، ثم تعلق المشانق، وتعود شريعة الغاب.
وفيما يخصنا في العراق فإن الذي لا يمكن إنكاره أن كثيرين من العراقيين اليوم يترحمون على أيام صدام حسين، بحجة أن في عهده كان هناك أمن، وكان للدولة هيبة، وكان الحرامية أقل من أصابع اليد. يعني أن المواطنين الأبرياء، بعفوية، صاروا يحنون إلى (السيء) القديم، بعد أن ذاقوا مرارة (الأسوأ) الجديد، والأكثر خرابا وفسادا واستغلالا للسلطة، والأشد ظلما ومهانة.
فها نحن، بعد عشر سنوات من المحاصصة، بلا أمن ولا ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا غذاء. فألا يتذكر المواطنون أيام الحصار؟
وهاهم شركاء المحاصصة الديمقراطية في العراق الجديد يتنابزون بالألقاب، ويتحاورون بالشتائم والاتهامات، ويتحشدون ويتسلحون. والخوف كل الخوف من ألأن تعود المدافع لغة للحوار، بعد لغة الكواتم والمفخخات والمتفجرات. وها نحن نقترب من حروب جديدة بين عرب (وحدوين) وكورد (انفصاليين)، بالحجج القديمة نفسها، للدفاع عن الوطن وحماية وحدته من (المتمردين).
بعبارة أخرى، إن المحاصصة الطائفية لم تدم، وتحالف الكورد مع شيعة إيران لم يعمر طويلا، وقد يصل عما قريب إلى نهاية طريق.
وقد كتبت وكتب غيري كثيرون، عن هذا التحالف، مبكرا، وتنبأنا بنهايته المحتمة. وذلك ليس اعتمادا على تخيلات أو اختراعات، ولكن استنادا إلى واقع مرير من خلافات ومشاكسات وحروب صامتة أشعلتها بين المتحاصصين طبيعة البشر ونقمة التعصب والغرور والجشع وحب التملك المَرَضيِّ البغيض لدى هذا أو ذاك من أصحاب الوليمة الواحدة.
وفي آخر مقال نشر في الشهر الماضي (التحالف الشيعي الكردي في مأزق فما الحل) نقلت عن مسؤول كردي كبير ندمه على التحالف مع أحزاب السلطة الشيعية الموالية لإيران، وإصراره على تبرير ذلك التحالف الاضطراري بعدم وجود قوة ديمقراطية عربية حقيقية موحدة وفاعلة يمكن التحالف معها لبناء دولة أفضل من التي تمخض عنها ذلك التحالف المريض.
فرد علي أحد (المتعصبين) لنوري المالكي وشلته بشتائم ما لها أول ولا آخر، زاعما أنني وغيري ممن أدلى بدلوه في هذا الموضوع من “البقايا البعثية للوصول الى نتيجة مهمة وهي شق صف الوحدة الذي دأب عليه التحالف الكردستاني والتحالف الوطني وتشكيلهم للحكومات المتعاقبة منذ سقوط النظام البعثي السابق”. واتهمنا بالعمالة لدول عربية وخليجية تحديدا لنكون الاداة التخريبية أبعد من مساحة الوطن والمتواجدين فيه.
وقال ” ان التحالف القوي والقديم بين المكون الشيعي والمكون الكردي لم يرُق للبعض استمراره بهذا الشكل، لأنه يعتبر البناء الاساس للعراق الجديد” .
وأردف يقول” لذلك يحاول أحد أقلام العهد المقبور والمتباكي على حلم الماضي القديم ابراهيم الزبيدي الذي يحن لعمله مغردا لنظام البعث في اذاعة جمهورية العراق بقوله الذي يتبلى به على أحد القادة الكرد بأنه أبدى له ندمه على تحالف الاكراد مع الاحزاب الشيعية العراقية لان لا بديل عنهم من العلمانيين كما ورد في مقاله المنشور على موقع ايلاف الالكتروني السعودي تحت عنوان (التحالف الشيعي الكردي في مأزق ،، فما البديل)”
واقتطع من مقالي هذه الفقرة بالذات ( وليست المناوشات الحامية المتتابعة المتصاعدة بين رئيس الوزراء نوري المالكي ومحازبيه نواب حزب الدعوة ودولة القانون، من جهة، وبين قيادة إقليم كردستان وحلفائها، من جهة أخرى، سوى دليل صارخ على وصول ذلك التحالف إلى نهايته المتوقعة، وتأكيدٍ واضح لوجود مأزق خطير وحقيقي يصعب التستر عليه وتهوينه وتبسيط انعاكاساته الخطيرة على مصير العملية السياسية برمتها، عما قريب.) وعلق عليها فقال “من الواضح أن هذه الماكينة الاعلامية يحلمون من خلالها تعميق المشاكل وتخويف الواقع السياسي ليدفعوا بالاخرين الى التصعيد والمناورة والمناوشات الكلامية من كل الاطراف وهو ايجاد الارضية المناسبة للتفرقة وطرح الاجندات التي يؤمنون بها ولذلك فإن الرجل احد الابواق التي تريد دق الاسفين بين الطرفين”.
بهذ المنطق الساذج يتوهم صاحب الرد بأن رئيس الشيعة نوري المالكي (حسب ما أسماه مستشارُه سامي العسكري) ورئيس الأكراد مسعود البرزاني صَبيّان يلعبان في ساحة القرية، ويتبارزان بالعصا والمحجان، وتكفي همسة عابرة من عابر سبيل لإشعال الحماسة فيهما ودفعها إلى التصعيد.
لكن الزمن لم يطل كثيرا حتى تصدى له اثنان من أقرب أعوان المالكي نفسه، ومن أكثرهم قدرة على التكلم باسم الحجي وباسم دولة القانون، أحدهما سامي العسكري الذي قال” ان استمرار الحديث عن تحالف شيعي – كردي هو أكذوبة”.
وفسر كلامه بالقول ” بعد سقوط نظام صدام وخلال الفتره الاولى بعد السقوط وفي ظل المقاطعة السنية المعروفة فان التحالف الكردي – الشيعي كان له ما يبرره على صعيد التصدي للجهات المناهضة لبناء دولة جديدة وعملية سياسية ناجحة، لكن بعد مشاركة الجميع، بمن في ذلك السنة، وبشكل كبير جدا، فان السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي مبررات هذا التحالف؟ وموجه ضد من؟ هل هو موجه ضد السنة مثلا؟”.
وأشار العسكري الى أن “هناك اليوم شركاءَ ثلاثة ً في العملية السياسية، وبالتالي فان استمرار الحديث العاطفي وغير الواقعي عن تحالف شيعي – كردي أمر يجافي الواقع”.
واضاف العسكري قائلا: “اذا كان ذلك من الناحية الشكلية فلا مبرر له ولا معنى، أما من الناحية الواقعية فان النزاع بين رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني، الذي هو (رئيس الاكراد)، وبين رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي هو (رئيس الشيعة)، وصل الى مرحلة كسر العظم، فأين يمكن أن نتلمس هذا التحالف؟”.
أما الثاني فهو الناطق باسم دولة القانون عزت الشابندر الذي أطلق على ذلك التحالف صفة زواج المتعة، وأكد نهايته، متهكما على الكورد بقوله ” إن كردستان اليوم دولة شقيقة”.
هذه النماذج من الكتاب المبالغين في التعصب، والمالكيين أكثر من المالكي، هم أصل مصيبة هذا الوطن الذي تتناهشه الأغراض والمطامع والمنافع والرواتب والمناصضب والمكافآت والأجور. أما العدالة والعقلانية والحوار الفكري بالحجة والواقعة والحقيقة فأمر عز وجوده اليوم، في مقابل طوفان من الأقلام الجاهلة السطحية الهامشية التي يحملها هذا النفر من خبراء الردح والقدح والشتيمة. وكان الله في عوننا وفي عون أهلنا في الوطن المنهوب.