18 ديسمبر، 2024 8:00 م

آنين الذاكرة المجروحة

آنين الذاكرة المجروحة

كان من عادتي الخروج في بدايةالليل،أما الآن فقد قررت ان اخرج في الصباح الباكر للتسوق، لأن مؤنتي من المواد الغذائية، انتهت ولم يبق الا الشيء القليل منها، أتيت على جميع ما كنت قد ابتعته منذ اسبوع، لكني لم أترك بيتي على الرغم من حاجتي للخروج. كنت اشعر بالضيق في التنفس والخدر في جميع اجزاء جسدي. مكثت في البيت والكأبة تضيق عليَ بطوقها الخانق. ظللت خلال النهار، افتر بخطوات وئيدة،متعبة، في غرف البيت، اسمع صوت امي وابي، من الابواب والنوافذ والجدران، اسمعهما يأتيان، من فراغ البيت الموحش. كانت بي رغبة الى البكاء، لكني لم ابك، فقد كنت منشغلا وخائفا وحزينا، من الصعوبة في التنفس، التى بدأت منذ الصباح الباكر تحاصرني بين الفينة والاخرى، من لحظة استيقاظي من نومي الذي كان قلقا ومضطربا، تخللته الكوابيس. تناولت حين حل الغروب، كي اسكت صراخ معدتي، قطعة جبن صغيرة وقطعة اصغر من صمونة، تركتهما على منضدة القراءة والكتابة خاصتي من ليلة البارحة، ومن ثم شربت قدحا من الشاي، كنت قد عملته على المدفئة النفطية، لأن الكهرباء لاتأتي الا ساعة او اقل في اليوم، اخذت ادخن وأنا متمددا على سريري بجوار الشباك، كما هو ديدني، عندما اتهيأ للنوم بعد عودتي من جولتي في القطع الأول من ليل المدينة وأحيانا أقرأ قليلا قبل الخلود الى النوم،أخذت فترة للاسترخاء والتآمل، تأمل النخلة السامقة ووجودي وموجودات الوجود وراء سياج الحديقة، الوطيء، كانت هذه الطريقة هي طريقتي في التعامل مع نفسي والحياة من حولي، في كل ليلة منذ اصبحت وحيدا، اقطن هذا البيت الكبير. اخذت انظر الى طلائع الليل التى اخذت تتسيد على الشارع امامي وهي تطرد بقايا فلول النهار الذي همينت على سماءه، غيوم سود، قاتمة، شديدة القتامة، تدفعها ريح تتراوح بين الخفة والشدة وبين الدفء وبين البرد،لكنها وفي التاليات من الدقائق، حسمت امرها وتحولت الى الشدة، الشدة القوية وهي تحمل البرد والمطر على متنها. بغتة، عصرني ألم قوي في صدري، في الوقت الذي كنت انا فيه،انظر الى الليل والشارع قبالتي، متأملا الظل القاتم للنخلة السامقة التى عشقتها مذ كنت شابا يافعا. فقد كانت الشاهد الاول مع الليل، على قصتي حبي الوحيد مع سمية التى كانت تشبه هذه النخلة بقوامها الممشوق، والذي لم ادخل بعده، مرة اخرى، الى هذا العرش الجميل في مملكة الحب. النخلة النابتة هناك على كتف الطريق، قريبا جدا،أشبار قليلة، المسافة بينها وبين سور الحديقة،رأيتها، تنحني تحت ضغط وقوة العاصفة التى هبت منذ حين، قليلا من الحين، وهي تدفع المطر، مطرا غزيرا، على شكل اعمدة من المياه، تساقطت على شباك الصالة امامي. اخذني الخوف من ان يباغتني الموت، عندما اشتد الألم في صدري. في الدقائق التالية اشتد اكثر واكثر حتى بت لااقوى على التنفس. وجدت نفسي اختنق وأنا وحدي في الصالة لبيت كبير تركه لنا، أنا وامي، والدي الذي اخذته، شهيدا، حرب أسرائيل مع العرب في عام 1973 وتركنا وحيدين انا وأمي في مواجهة الحياة. كنت طفلا لم يبلغ السنتين من عمره بعد، كما كانت امي تقول لي بعد ان كبرت، في ليالي حزنها الدائم. عندما كانت تدندن بنواح حزين ومؤلم، اترك متابعة دروسي لأستمع إليها والدمع يترقق في عينيَ.رويدا، رويدا، تراجع الألم حتى اختفى تماما. ظللت مضطجعا على السرير الذي تمددت عليه للاسترخاء، حين فاجأني الألم. لم اتمكن من الحركة واكتفيت بالتحديق في السقف مرة وفي النافذة مرة اخرى وأنا اسمع خلال هذا، أزيز الريح وصوت المطر، اللذان تداخلا مع نباح الكلاب واصوات اطلاق الرصاص من امكنة متفرقة وبعيدة. من النافذة، يأتيني صراخ، بدا كأنه صرخة ألم لأنسان، حاصرته العاصفة المفاجئة واغلقت عليه ابواب الخروج منها والوصول بأمان الى بيته او هكذا خيل لي، أنا الراقد بلاحركة، وحيدا في مضجعي. قلت لنفسي ربما هي أصوات الريح والمطر الغزير، اللذان بدأا يعصفان في الابواب والشبابيك واشجار الحديقة والنخلة السامقة. لم اشعر باي ألم فقد اختفى الألم بالكامل منذ لحظة، ولم يعاود الرجوع الى صدري مرة اخرى، لم اشعرسوى ببعض الخدر اللذيذ الذي اخذ يسري في جسدي. ثمة صوت مفعم بالرقة والنعومة الفارطة، جاءني من داخل البيت، سرعان ما اقترب مني، عندما ركزت مسامعي عليه، عرفته، انه صوت سمية. من جاء بها في هذا الليل والرياح والمطر،لذا، كي ابصرها بعد ان رحلت من الحياة وحياتي لسنوات مديدة، نزلت برأسي من على السقف فقد كنت احملق فيه، لحظة سماعي لصوتها الحبيب، لأنظر الى سمية التى رحلت في ذاك الليل الاسود البعيد، لكنها، لم ترحل بالنسبة لي، فقد ظلت تعشش في خيالي، بكل كيانها وروحها وتضاريس جسدها وصفحة وجهها الجميل.رأيتها تحملق في وجهي بقوة وتركيز كأنها تريد ان تعتذر عن غيابها المديد او تقول شيئا ما، لكنها لم تقل شيئا ولم تفتح فاهها حتى، فقد لاذت بالصمت على غير عادتها حين كنا في ذلك الزمن البعيد، نلتقي في الليل، جوار النخلة السامقة. : أني خائفة، موجعة، قلقة ومضطربة وحزينة يا ناجي، بغداد تلتهمها الحرائق، حرائق في كل مكان. لنجلس لبعض الوقت هنا، تحت هذه النخلة في هذا الغروب الذي يلفه القلق والاسى. متى ينتهي جنون الدمار هذا؟ ناجي اقترب مني، اريد ان اشم رائحتك. كم أنا احبك، انت كما الهواء الذي اتنفسه، والذي من دونه، أموت، أنت ايضا وأنا على معرفة مؤكدة به، معرفة نابعة من نفسي التى تنبأني بأنك تحبني بالقدر الذي اكنه في داخلي لك من الحب، لذا، فأنت كما أنا تموت من دوني، نحيا معا او نموت معا. أه..أ..ه لقد انقضى الوقت بسرعة وانت لاتتكلم، تخرج من صفنة لتدخل في أخرى. لقد حل الليل وامي هناك، في البيت تنتظرني، لنهذب أنا وأمي واخوتي الصغار وابناء اخي، الى الملجأ. ناجي لماذا لاتذهب انت وامك معنا الى الملجأ. قلت لها امي ترفض ان نغادر البيت، تقول اذا كان قدرنا ان نموت، سوف نموت، ان كان هنا، في البيت أو في الملجأ. ثم ألتصقت بجسدها الى جذع النخلة، تماهت معها حتى تراءت لي كأنها النخلة السامقة. قبلتني وهي تقول: نلتقي غدا، عند الغروب. ومن ثم نهضت واختفت في عتمة الطريق. دخلت الى البيت، كانت أمي فيه، تنتظرني على المائدة التى اعدتها كي نتاول معا العشاء. لم نأكل أمي وأنا سوى لقمتان. كنا حزينان وقلقان ومتوجسان. كان الاسى في نفسي،يصرخ في داخلي بالنهاية المفجعة، تحمله أليَ ويرجع إليَ على اجنحة غراب يطوف في فضاءات غرف البيت والصالة، هكذا تصورتها كما الغراب، في خيالي المشبع بالهم وجروح الروح، غراب ينعق بنعيق حزين، لايحتمل. رعود تئز وبروق وامضة، تتصاعد وهي تدوي في السماء العميقة والمعتمة. في الليل، بعد ساعة لا اكثر من مغادرة سميه، اهتز بيتنا، هزا عنيفا، عنيفا جدا، عنيفا بما لايقاس، حتى تصورته قد اقتلع بيتنا من اساساته وسوف يسقط لاحقا، لاحقا بسرعة البرق، على رؤوسنا، أنا وأمي.سقطت الحاجيات من على الرفوف ومن داخل خانات خزنها، في اثاث البيت الخشبية، تناثرت على الارضية، دخلت الى البيت حزم الدخان والغبار وقطع كثيرة وصغيرة من الحصى والاسمنت الصلب، تحول البيت وموجوداته التى تناثرت على الارضية، الى فوضى عارمة، وأمي تولول، ولولة حادة جدا، متألمة الى اقصى حدود الألم، وهي تقول” انجاس، وحوش. النخلة احترقت ذؤابات سعفها والجزء الاعلى من جذعها. صياح وصراخ تعالى من داخل البيوت المجاورة، كأن قيامة الجحيم قامت في هذه الساعة.. في اقل من ثانية، اقل من حركة رمش العين، افرغت البيوت من ساكنيها، في شارعنا المجاورللملجأ والشوارع الاخرى القريبة، الجميع يركض الى الملجأ، نواح وندب على الصدور، نداءات كثيرة ومختلطة مع بعضها البعض، تشحن الهمة: أبني اركض، أخي اركض، عمي اركض، أبنتي اركضي، خالي اركض، علنا نلحق ونطفيء النار وننقذ ما يمكن انقاذه.. نار الحرائق، التهمت اجساد الاطفال والرضع والنساء وكبار السن..الحرارة في الملجأ المدمر تجاوزت ل 1000درجة مئوية.. ابواب الملجأ، اغلقت بفعل قوة القصف او انها انصهرت..لم ينج احدا ممن كانوا هناك، في الملجأ.. وقفت على بعد امتار من النار التى لم تزل تتصاعد على شكل فتائل تلتهب بالحرارة والدخان واللون الاحمر لأسنان النار، وهي تنقل الى خياشمنا رائحة شواء اللحم البشري للاطفال والنساء والفتيات والشيوخ، كبار السن. سألت أمرأة متقدمة في السن، كانت تنوح نواحا ضعيفا ومشروخا، يمزق الروح. كنت اعرفها واعرف ان بيتهم يقع جوار بيت سمية: جدتي.. ولم اكمل فقد عرفت المرأة ما اريد ان اعرف واجابتني وسيل الدمع الذي انسكب في فمها، شكل كتلة صغيرة من ماء الدمع المالح، استقرت في تجويف فمها، لتختلط مع مخارج الكلمات الثلاث التى قالتها بخنة وجع لايطاق: سميه وعائلتها، هناك، وهي توميء بكف يدها المرتجف الى جحيم النار. شممت رائحة سمية، مما جعلني، احدق في العتمة التى تنار بنور خاطف لايثبت ولايستقر، لوميض ترسله الغيوم في السماء المظلمة الى الصالة وبقية غرف البيت،رأيت سميه واقفة فوق رأسي. مددت يدي إليها او هكذا خيل لي باني سحبت يدي من تحت الغطاء الذي كنت حين داهمني الألم، دثرت جسدي به، لم اجدها،لم يكن لها من اثر مما جعلني انصت بجميع مسامعي علني اسمع حركتها في الداخل، لكن ، لاصوت لها في ممرات البيت وغرفه، فقد اختفت رائحتها وصوتها. عندها تيقنت من انها غادرت بالطريقة المباغتة التى حضرت بها، هي وصوتها الشجي. اخذ حزني يزداد كثافة في داخل نفسي لخسارتي لها مرة اخرى، فقد كنت اريد ان ابوح لها بحجم الخيبة والوحشة اللتان عشتهما في غيابها. هزتني ضربات قوية ومتتالية لفردة الشباك والباب المفتوحان على سعيتيهما مما مكن الرياح من الدخول الى الصالة التى ارقد انا فيها على سريري،وهي تتلاعب في الستائر في الصعود بها، الى السقف والنزول بها، الى الارض في حركة سريعة جدا وهي تحمل خطوط المطر الغزير، لتسقطه على مقربة مني. عاد صوت سميه يطوف في فضاء البيت. أتسائل من اين ياتي صوتها؟ واين هي؟ ولماذا غادرتني؟ بعد ان حضرت لمرتين بمحض إرادتها،ربما هو وهم خيال تملكني في هذه الساعة من هذا الليل البيئس، ربما لم يكن هناك من صوت الا صرير الرياح وصوت المطر. لكني عندما ركزت لأستفهم، كان هناك، ذات الصوت،صوت لم يختفِ، صوت كلي الحضور والهيمنة، صوت سمية، يقينا انه صوت سميه، قلت لنفسي. لقد كان صوتها الشجي والقريب من نفسي هذه المرة واضحا كل الوضوح وانفاسها تضرب بقوة اديم وجهي او على هذه الطريقة رسم خيالي مشهد حضورها الصوتي. كانت تبكي عندما كلمتني بعتاب مر: لماذا لم تزرني، سنوات انقضت، لم تزرني فيها، في مكاني الابدي، هناك، في ملجأ العامرية. حبيبي انا هناك مع ابنائي الاطفال واصدقائي من الشيوخ الذين بلغ بهم العمر عتيا وصديقاتي. ثم اخذت تصب عليَ، اللوم تلو اللوم. لقد انتظرتك كثيرا في السنوات الاخيرة، لكنك لم تأت ابداً.لاتبكِ. قلت لها. نهضت من سريري كي اعانقها وامسح دموعها من على وجهها،لكنها اختفت بسرعة اذهلتني كما اختفت في المرة الاولى والثانية، مع ان صوتها المجلل بالحسرة والخسارة والفقدان، ظل يرن في رأسي ويخرج منه،ليملء فضاء البيت: في الملجأ ينعتونني بأمرأة الاضواء التى تنتظر فارسا لم يحضر إليها بعد وهي في انتظار زيارته، هذه، هي أنا يا حبيبي التى تنتظر زيارة لم تجيء إليها حتى الآن. الذاكرة شيء ثمين والاحتفاظ بها اثمن. ألم أقل لك، ذات يوم بعيد، أن جسدي له تضاريس، تختزن فيه مياه الوجود وحب الحياة او كما انت كنت تنعتني باني توأم النخلة السامقة، أنا أمرأة الاضواء التى تحتاج من يصعد برعباته الحربية الى ذؤابات سعفها وبقية انحاء جسدها، تحتاج الى جسد رجل له، قوة جسد متين وإرادة لاتلين،ويقطف الرطب من على اعذاقها او يشم رحيق فمها او يتجول في تضاريس جسدها برهبة فارس شجاع، يطرد فلول المعتدين على جسد الحبيبة، جسدي، ويأكل حتى يستطيع ان ينتج حياة جديدة، تديم الحياة يا ناجي الحبيب الذي خيب الظن فيه. أنها، الآن، أنا، هاربة منك او راحلة عنك وقتيا، وأنت تحاول أن تتمسك بي، كمن يطارد حزمة ضوء، نازلة من كوة في الجدار، اضاءت المختفي من شروخ ذاكرتك. أنا، أمرأةُ الأضواءٌ التى جعلتك تبصرها وهي لا تستقر في حيز واحد من امكنة البيت. وانت تطاردني، كأنك تطارد غيمة هاربة في السديم اللامتناهي، تصفن وتنظر اليَ من مكانك في صالة البيت وأنا في ركن الصالة، يؤلمني ما انتهيت إليه. تعلم علم اليقين انت من غيري، كيانك ووجودك وجميع آمالك في العدم. .أنا يا حبيبي في كل بقعة من نواحي البيت وفي جميع امكنة الوجود، من الشوارع والازقة والمزارع والبساتين والهضاب والسهول والجبال والانهار، فأنا اتجول في الليل فيها، كما كنت اتجول فيها، في السابقات من الزمن. الاحظك وأنا في سياحتي الليلية في تلك الاماكن؛ أن مساقط عينيك عليَ، في كل مكان من الانحاء التى اتواجد فيها، ليلا. ومن ثم قالت وداعا يا حبيبي، وداعا قصيرا الى ان ألتقيك قريبا، قريبا جدا. عندما تركتني اخذت أتفكر بما قالت وانا على السرير المكفن بالبياض القريب مني، اضيع في الفراغ الذي سد مكامن الوجود الذي يصارع قدر الامحاء بأمرأة الأضواء،حبيبتي سمية، حبيبتي وصنو روحي وعقلي وجسدي، التى تقارع بضراوة قدر الانطفاء المشؤم. انا من اسميتها أمرأة الاضواء وليس القاطنون في الملجأ ذاك، من لحظة تعرفي على شهوة الحياة ولغز الوجود من على مدارج منحدرات وهضاب وسهول جسدها بخرائطه المتنوعة. استعيد في خيالي وجودها الصوتي، قبل مغادرتها وهي تودعني منذ لحظة، يقترب صوتها ومن ثم يبتعد وفي جميع الاحوال، له وجود كلي الهيمنة في جميع غرف البيت، اسمع صوتها الحبيب الى نفسي.اتمعن في معالمها واتفحص جسدها المتخيل والواضح كل الوضوح، الذي تلون بزرقة الغيوم واصواتها التى سرقتها من صوت الرعد في الخارج:
-انستني وجودها، زوابع الخارج وزلازل الارض ورعود السماء التى بدأت تزوبع وتدوم بقوة هائلة بعد رحليها عني. ومن ثم بدأت مقذوفات الغيوم من البروق المتلامعة بين لحظة ولحظة، اكثر كثيرا جدا من البداية التى بدأتها قبل حين من الأن.وما هي ألا رمشة جفن العين واخذت الغيوم، تتساقط منها المياه على شكل طوفان، يختلف عن البداية التى تهاطل فيها المطر المصاحب لهبوب الرياح الشديدة. طوفان من المياه، نزل على فم تراب الارض، الذي فتح شدقيه الى اقصى الاتساع. عادت الى البيت هاربة من طوفان مياه السماء ورعودها وبروقها. لكنها قالت لي، ربما قرأت ما فكرت أنا فيه، حين رأيتها تعود: رحعت لأمر اخر، رجعت كي أخذك معي. اقتربت مني وانفاسها احرقت اديم وجهي. قلت لها تمهلي قليلا يا حبيبتي يا أمرأة عشقي الازلي، عشقي لك الذي لايزال جمره يشعل نار الوجد داخلي. -: اه..يا لجروح الذاكرة التى لم تزل تنزف دم الضياع والتيه. ثم ران صمت كصمت المقبرة في ساعة الغروب. لم يدم الصمت ألا قليلاً، أذ دخلت الرياح العاصفة في الخارج الى البيت والصالة والسرير الذي ارقد عليه، مع طوفان المطر الغزير الذي تهاطل بقوة غير مسبوقة، ينقر نقرا حادا ومتلاحقا على زجاج النافذة. اجتاحت جسدي، موجة رعب، جعلتني أختض في سريري. اردت ان أوقف هذا الاختضاض ولم افلح. صحت باعلى صوتي : أن اوقفوه وألا..كلماتي تاهت في فراغ حلقي، أذ لم يكن هناك غير طوفان المطر والليل وعصف الريح الذي جعل غطائي المبلل بوابل من مياه المطر، يتطاير في فضاء الصالة. كنت في طوق من صمت البيت وصمت حبيبتي التى لم اسمع لها حس لأنشغالها في تمسيد شعر رأسي وتجفيف المياه من على وجهي. زاد اختضاض جسدي. تحاملت على نفسي ونهضت بقوة كما كنت أنهض في سابق زمني. سمعت بكاء مخنوق،لأبي وأمي، عرفتهما من بحة الندب في صوت أمي، لم يكن بكاءا، كان نواحا يفطر القلب. الريح لم يزل يصفر في الخارج وصوت رأسي يبلغني بأخبار مؤلمة: فقد تحولت الانحاء الى مأتم كبيرة منتشرة في كل مكان، في مسيرات جنائزية تسيدت في الوجود الذي صار يدور في مناخات الحزن، حزن بلاحدود، منفتح على اوجاع لاتنتهي.المطر يواصل النقر على زجاج الشباك، كأنه يعلن للناس بقرب المنتهى؛ لكن شيئا من هذا لايلوح في الافق الذي تواري وراء الغيوم السود وقوة هبوب الريح وغزارة المطر وليل البيت المظلم. أذ، تكاثر الضجيج في رأسي حتى طغى على جميع الاصوات ألا صوت المطر والريح وهي تلوي اعناق الاشجار وجذوع النخيل في حديقة البيت الصغيرة. أخذت أتجول بعيوني في فضاء الغرفة التى أرقد فيها على سريري. ومن ثم اغمضت عينيَ على نداء جاءني راكضا من تلافيف دماغي: اُنظر الى الغرفة، ليس فيها غير الوحشة والوحدة. الريح تئز في خصائص النافذة والباب والمطرالغزير، الغزير كما الطوفان، غمر بالمياه، غرف وممرات وصالة البيت. اردت ان أفتح عينيَ مرة اخرى، لم أقوَ على ذلك. شيئا فشيئا اخذت انحدر الى الهوة العميقة التى كان فيها الموت في انتظاري،هذا الكائن البغيض، تقدم نحوي، فاغرا فاهه، ثم بدأ يدخل على مهل، متجولا في كياني. نزع مني، ما ارتديه من ثياب، طرحه على مقربة من منامتي، وبدأ يغيرها بالثوب الابيض، أذ، تسيد بياض الانطفاء في فضاء الغرفة. لكن شيئاً حدث، حول رعب بياض الموت المنتظر، خروج اخر شهقات الروح، الى حياة بثوب وكلمات جديدة، لم اسمعهما في السابقات من ايام حياتي. في البدء ولج المكان كائنان من هدوء وسكينة لاتحتملان، كانا ثقيلان، اكثر رعبا من كفن الموت، هذا الذي اخذ يدب بدبيب نمل بالملاين في رأسي وبقية جسدي.كان هناك كائنان ايضا، كأنهما غيمتان حطتا في وسط الغرفة وصوت الريح والمطر يعوي كعواء الذئاب في المكان، اقتربا اكثر حتى صارا واضحان، أنهما، أبي وأمي، امسكا بالثوب الابيض قالا له أنتظر قليلا حتى نقول له ما لم نقله له، في الحياة: كنت وحيدا، عشت وحيدا، والآن ترقد وحيدا على باب الرحيل. الوحدة تقتل الحرية والحياة وتمتص ثراء العقل وقوة الروح كنت تتحجج بالحرية والكلمة وما تحمل من معاني للبشر لكنك لم تكن هذه ولاهذه، عشت كما التائه عن قافلة القوم في فضاءات الرمال لتمتص منك، حرارة البرية اللاهبة، ماء الحياة، لذا لم تترك ما يثبت انك قد مررت هنا ذات زمن. أقتربت أمي مني وهي تقول بصوت ملؤه الحسرة: لماذا، قبلت العيش في كنف الوحدة والعزلة، لم تفتح لك، بابا في جدران الدنيا. عندما حدقت مليا في وجه أمي، راعني ما رأيت، رأيت سمية، واقفة وراء أمي، كان جسدها يظلل ابي وأمي. قلت بلهفة العشق المستدام لها، في نفسي وفي عقلي : سميه. لكن سميه لم تقل كلمة، ظلت صامته كصمت النخلة السامقة التى عشقناها معا او الصحيح، أنا من عشقتهما معا، النخلة وسمية، المتماهية معها، في الزمن الذي انقضى الان واصبح نسيا منسيا. أمي قالت لي بصوت حسير، دع سمية، سميه لها شأن اخر،أنا اتحدث معك عن الناس والحياة وعنك وماذا قدمت من افعال فيها، نحن هنا، ابوك وأنا نذهب في كل ليلة الى البيت الذي تركناه لك كي تعيش فيه مع تقاعدينا، ولاتحتاج لأحد، كنا نتجول ليلا في البيت وانت اما تقرأ او نائم او تنظر الى النخلة السامقة او تتحدث مع اللاحد. يا ابي وامي لقد اشتقت لكما كثيرا. في الفترة الاخيرة قتلتني الوحشة والوحدة،غيابكما عذبني كثيرا.اتألم على ما فات مني، احاول وقد حاولت كثيرا، ان اكون غير ما أنا كائن، لكني لم انجح ابدا. لم استطع تغيير ما هو كائن في داخلني الذي تمكن مني وملك عليَ كل كياني وزمام نفسي وعقلي، من اللحظة التى اندلعت فيها، حرائق بغداد بالقصف الامريكي الذي احرق جسد سمية وحولها الى كتلة متفحمة، لكنها لم تمت، فهي تجيئني كغيمة بيضاء هاربة او كطيف يمر سريعا كومضة برق امامي ويختفي، أذ، تأتيني بصوتها الشجي، بصوتها الكثيف،المجلل بالحسرة ولهفة البقاء على مقربة مني، في كل ليلة، لتحدثني او تحاورني حول علاقة الحب الابدي بيني وبينها. بين الاغماءة والصحو، نظرت حولي، لم اجد للثلاثة، أبي وأمي وسمية، من اثر. لأجدني عندها، اختنق ويطفر الهواء هاربا مني، لحظة ولحظات وخرجت من كابوس الرهبة، كطائر حلق منتشيا مسافة مترا من السرير، يا للفرح الغامر، فقد عادوا، ثلاثتهم، عادوا، تقدمت نحوهم بلهفة اللقاء بعد سنوات الغياب ومن ثم غادرنا الى دنيا الله الاخرى. عم البيت فراغ وصمت مخيف ألا من صوت الريح والمطر والليل المظلم في الخارج لتدخل عاصفة الى البيت الذي انفتح بابه عنوة بقوة الهبوب العاصف، حاملا المطر وانين لذاكرة مجروحة. تطايرت الاوراق واصاب الكتب بلل المطر الذي حمله الهواء من الابواب والشبابيك التى انفتحت تحت ضغط الرياح.