الى: دجلة الذي يموت ونحن ننظر اليه – حكومة وشعبا وإلهاً – بهدوء كهدوء الموتى وصمت كصمت القبور.
“عندما يقوم انكي الموقر باجتياز الارض المبذورة تخرج هذه الارض حبوبها بكثرة” *
تُصوّر الارض واسمها ” نن- تو” اي السيدة الوالدة او الإلهة الأم في المنحوتات القديمة في العراق القديم على هيئة إمرأة ترضع توأمين في حضنها ويلتفّ حولها حشد من الاطفال يتشبثون بثيابها الخضر او يندسون تحت وسائدها التي هي اكياس من قمح ورز وشعير وازهار… اجنـّة كثيرة أخرى ترقد في رحمها
من اسمائها الاخرى “نغ- زي عال- دم- مي” اي “صانعة كل ما فيه نسمة حياة” ولأنها منبع التناسل او امّ الاطفال اجمعين الحاكمة القديرة ففي يدها اذا شاءت انْ تحرم فاعلَ الشر من ان تكون له ذرية او انْ تحرم البلاد كلها من التوالد والخير والسلام اذا لم تكن جديرة به
ولأنها المبدأ الاساس للولادة ونمو الحقول وحفظ الجنس البشري فقد اتخذتْ عرشها كقوة عليا الى جانب أنليل إله العواصف إله السماء الذي يترأس حكومة الكون… إنها ننماخ الملكة الموقرة ملكة الملوك الاسياد وملكة الآلهة اجمعين تقرر المصائر وتتخذ بنفسها القرارات بشأن الارض في حين ينفرد انليل بشؤون السماء
هي ايضا الامّ الوالدة للماء والتراب والنبات ولأن الآلهة لا تلد الا آلهة كان الماء الهً والتراب الهاً والنبات الهاً وكل شيء حي إله… احيانا تتسمى إلهة الارض باسماء ابنائها مثل “أن- كي” إله المياه المعروف بليونته وذكائه وحِيـَله التي تجعله قادرا على النجاة من كمائن اعدائه والبقاء حيا ابدَ الدهر وكيف يموت مَن كان اصل الحياة وواهبها يتسرّب من بين شقوق الارض وتعرجاتها ومن بين فروج الاصابع ويتخذ شكل ولون الاناء الذي يستقر فيه وهو في الوقت ذاته عميق وواسع وغائر يتمتع بالحكمة والمعرفة والصفاء
احيانا تفوق حكمته حتى سيدة الارض أمّه ننماخ المبجلة… وفي مناظرة لطيفة بينه وبينها تطرح السيدة العظيمة تحديّا لمسائل عويصة فتخلق ستة انواع من البشر المعاقين جسديا وحسيا فيقدر إله المياه بذكائه الخارق من انْ يجد شفاء وادوارا لهذه الكائنات ومن ثم يطرح هو تحديه فيخلق كائنا مصابا بالشيخوخة والهرم ويسميه ” يو- مو- اول” اي يومي بعيد… لكن السيدة العظيمة ننماخ تقف مذهولة بخيبة وحائرة في ان تجد شفاءً او حلا لهذا الكائن التعيس الذي بلغ اهونَ العمرِ فتعلنُ السيدة عجزها قائلة بتذمر: انّ هذا ليس بالكائن الحي
ورغم مكر اله المياه وغضبه المتوقد لأسباب غامضة الا انّ له جوهرا ضاربا في الرقة والهدوء والسكينة ودماثة الخلق هو عنصر الخلق في الكون واساس الوجود يمنح الحكمة والفطنة والعقل للكائنات ويفتح باب الفهم… حاضر دوما في الصلوات والادعية والنذور وفي الرقى التي تطرد الارواح الشريرة وتبطل السحر
اما ولادة النبات والخضرة فهي ثمرة زواجه بالإلهة “ننهور ساغا” إلهة التربة وهو زواج رغم عدم انفراط عقده الا انّ مراسيمه تـُعاد مرة كل عام… يتعانق الزوجان بعد اقامة المراسيم ويمتزجان حتى يصيرا جسدا واحدا ثم يغيبان في قاع النهر
وكما تلوذ الاعشاب بالنهر في فصل الربيع تأوي إلهة العشب الصغيرة المدللة “ننسار” مستفيئه الى ظلال ابيها إله المياه الودود الشفيف الرحيم والمتوقد العنيف في الوقت نفسه الممتلي بحياة كونية وبشهوة كونية لا حدود لهما… لذلك يختار اكثر من زوجة واكثر من عشيقة وكلما اضطجع الى جانب امرأة وانْ كانت يائسا او عقيما انجبتْ له اطفالا بمجرد انْ يمر ظله عليها حتى دون انْ يلامسها… انفاسه وحدها كفيلة بأنْ تجعل النساء يحبلنَ ويتوحمن ويلدنَ حيوات لم يرها او يعرفها احد من قبل… يقوم بهذا كله دون انْ يهجر زوجته الوحيدة “ننهور ساغا” فهو يغادرها بعد انْ يُرويها ويعود اليها حين تظمأ اليه مرة اخرى دون انْ يوجع قلبها او يثير غضبها لأن غضبها كفيل باضطراب الآلهة الراقدة في نومها العميق منذ الازل
ورغم أنّ الزوج الماكر يوقد الغيرة في قلب زوجته الوحيدة المخلصة لكنّ الغيرة لا تزيدها الا بهاءً وانوثة وجمالا فهي تحرص على انْ توالف بين حبها العنيف لزوجها وبين غضبها الذي يسببه طيشه ونزقه الذي بلا حدود حتى لا تربك نوم الآلهة الكبار فتنزل لعناتها على إله المياه وتحبسه في ظلمات الارض… ليس خوفا عليه ورفقا به فحسب بل اشفاقا على الحياة كلها والحقول من الجفاف والموت فلعنات الآلهة لا تهبط على من ازعج نومها فحسب بل على الخلق اجمعين… حينها لا تجدي نفعا لا صلوات الفلاحين والرعاة ولا ابتهالاتهم في اصلاح الامور إنْ لم تكن هي ذاتها إلهة التراب الرخوة الوديعة الحكيمة مَن يمنع الكارثة قبل حلولها .
*ديوان الاساطير/الكتاب الاول. ترجمة وتعليق خالد الشواف. تقديم واشراف:ادونيس. دار الساقي1996 . ص73
Facebook: Fadeel Kayat