كأنه كان يودع آلته ويعزف عليها آخر الالحان، تثب اصابعه بين الاوتار بتثاقل، ويعود بذكرياته الى الوتر الذي اطرب الناس فجن جنونهم لخفة اصابع العازف والانتقال السريع بين الاوتار، لم يعد يمتلك تلك المهارة، وهي ايضا ماعادت تحتمل الكثير، ولايريد ان يضعها تحت اصابع اخرى تجهل عنها كل شيء، فكر ان يقف قريبا من احد الاسواق ويعزف علّه يجني قليلا من المال، لكنه اعرض عن هذه الفكرة، الموسيقى صارت شبه محظورة في بلاده، ليس هنالك فرح واحد، لم يتصل به احد من اصدقائه منذ امد بعيد، حسنا ساحملها واذهب الى حسن صديقي غدا، فهو يقدر قيمتها وعراقتها، انتظر الصباح بفارغ الصبر، مر الليل عليه طويلا وقد وضعها على ركبتيه، وراح يضرب بحزن شديد على الاوتار، انها الليلة الاخيرة، لقد انقضى عمر من الصخب والالحان والمعجبين، ساضعك بزاوية ما وارحل، عليك انت ايضا ان ترتاحي، لم تعد اصابعي تجيد العزف، الرخاوة التي اعترتني جعلت الالحان تشتبك لدي عند العزف، والموسيقى هنا صارت مكروهة، لم اكن اعتقد ان الموسيقى ستنتهي او تحارب في يوم ما، ما وضعت هذا الامر في حساباتي، يوميا احملك وادور شوارع بغداد، لم افلح بجلب انتباه احد، الزمن ليس زمننا، علينا ان نقتنع بهذا الامر، انه ليس زمن الموسيقى.سأذهب صباحا الى حسن وارى رأيه، وضعها في حقيبتها المعدة لها وحاول النوم، رأى في منامه انه يقف على مسرح كبير شبيه بالمسارح العالمية، ويتوسط قاعة كبيرة ضاجة بالجمهور المتذوق، كان يعزف موسيقى خاصة، قطعة من قطع الموسيقار منير بشير، كانت القطعة تحت عنوان: موسيقى بغداد، ترجم من خلالها عوالم كثيرة على مراحل تاريخية عديدة عاشتها العاصمة، يهبط الى اردأ زقاق ثم ينطلق الى ارقى بناية وفق سلم موسيقي انيق، لاتطالعه الضوضاء، كان يغني على الاوتار مقاهي بغداد ومحلاتها الشعبية وقصورها الراقية لبيوتات عريقة عاشت هناك، ثم عرج على العلاقات التي تربط الناس بالتركيز على اغان تراثية توحي بقصص الحب الجميلة والخلافات البسيطة، استيقظ مذعورا وخائفا انه تأخر عن موعده مع حسن، انطلق مسرعا يحمل آلته وكأنها حبيبته العليلة التي يدور بها على الاطباء، وصل الى حسن وبدأ بشرح مشكلته، لم اعد اطيق العزف، والموسيقى توقف حالها، وانا اكاد اموت من الجوع، ماذا افعل؟، تنفس حسن واخرج سيكارة وراح ينفث الدخان، انا مثلك ايضا، انا لولا اولادي لمت من الجوع، اتذكر زمان الفن والعزف والليالي الجميلة، للاسف لم نفكر بيوم كهذا ولم ندخر شيئا.هل تنسى حفلة تونس وكيف ان الجمهور صعد على المسرح ليقبلك انت وهذه الآلة العجوز، ليتني انسى ولا اتذكر شيئا من الماضي، الكارثة الكبرى انني ملتصق ببغداد، واكره ان اسافر، والآن سرقني الزمن والموسيقى ماعادت سوى ذكريات، اصابعي ترتعش واذناي لا تعطي ايعازات ناصعة لاصابعي، تختلط الالحان في احيان كثيرة واصاب بالحرج في جلسات خاصة مع الاصدقاء، فكيف اظهر على مسرح كبير وامام جمهور عريض، فقدت الثقة من انني ممكن ان اعزف قطعة واحدة بدون زحافات، اريد ان ابيعها وانتهي من الامر، من سيشتري آلة قديمة، انها تحفة فنية وتساوي الكثير، نعم هذا الكلام ايام زمان، الآن لا احد يلتفت الى شيء كهذا، حتى ان فرقا كثيرة الغت آلتك من طاقم الموسيقيين لديها، لنذهب ونرى، كان الثمن قليلا والتعب كثيرا والفراق ربما سيكون اكثر وطأة، اقترح على صديقه حسن اقتراحا وافق عليه الاخير دون تردد، دعنا نذهب الى دار العجزة، وهل ستبقى هناك؟، سترى حينها، وصل الرجلان متعبين، وقف يتأملها وكأنه يودعها: اريد ان اضع هذه الآلة في هذه الدار، بشرط انني استطيع رؤيتها متى اشاء.