18 ديسمبر، 2024 9:47 م

آفة الميليشيات.. أصولها وتبرعماتها المسرطِنة

آفة الميليشيات.. أصولها وتبرعماتها المسرطِنة

يحق لي أن أصف الميليشيات (لفظ أجنبي ومفردها ميليشيا) بكلمة “آفة”، نظرًا لخطورتها وقدرتها على تدمير المجتمعات والدول على نحو يفوق قدرة القنابل الهيدروجينية، دون مبالغة. ومرد ذلك يعود إلى مُسبِّبات ظهورها ودوافع إنشائها، من بين سواها من عوامل بقائها وتوالدها وتكاثرها الجرثومي، كما هي عليه الحال المأساوية عبر العديد من دول ومجتمعات الشرق الأوسط المبتلاة لبالغ الأسف.
وإذا كان للعرب القدح المعلَّى (للأسف) في تاريخ نشأة وتكوُّن الميليشيات الخارجة على إرادة دمشق وبغداد بين العصرين الأموي والعباسي، فإنها كظاهرة راحت تخفت في توهجها من آن لآخر عبر تاريخنا، منذ ظهور “الصعاليك” حتى بروز دور الميليشيات اليوم في أماكن يصعب حصرها من إقليمنا المترامي، خصوصًا بعد أن أصبحت الميليشيات أشبه بعصابات الجريمة.
وبطبيعة الحال، لا يختلف اثنان على أن ظهور الميليشيات إنما يرتهن بغياب أو بضعف الدولة المركزية، الأمر الذي يعيد المجتمعات إلى شكل من أشكال البداوة: فإذا لم تكن الدولة قادرة على حمايتي ومنحي حقوقي، فلا سبيل لي سوى الارتماء في أحضان الميليشيات؛ نظرًا لتصديها لمطالب حاجات الجماعات الاجتماعية أو السياسية المهمَّشة.
وإضافة على الأسباب أعلاه، تتبلور أسباب إضافة لظهور الميليشيات، خصوصًا مع “غياب أدوات العقل”، بمعنى اختفاء فضاءات الحوار وقنوات التفاهم والتفاعل الفكري، الأمر الذي يدفع بالجماعات السياسية أو الكتل الاجتماعية المتنافسة إلى اللجوء للسلاح بهدف فرض رؤاها المستقبلية بالقوة.
بل إن الأسوأ من هذا كله يتمثل في أن الذين يؤسسون ميليشيات غالبًا ما يكونون من “الخارجين على القانون”، أي المجرمين الذين يمتهنون كسر النظام ومخالفة التعليمات والشذوذ على أنماط السلوك المدنية Civics.
وإذا كان العصر العباسي قد شهد أخطر أشكال الميليشيات (جنوب بغداد، بين الإحساء والبصرة)، تلك التي قادت بغداد إلى الوهن، ثم إلى فتح أبوابها للاحتلال المغولي التتاري، فإن ظهور الميليشيات على عصر تواهن وضعف الدولة العثمانية فيما تلا من حقب قد تجلَّى بشكل “عصابات” لا غبار عليها، عصابات ادعت فرض العدالة الاجتماعية بسبب عدم قدرة دولة الخلافة على تحقيقها؛ وقد تبلور أصلها في ذات العصر العباسي (على نهاياته)، خصوصًا بين حركات “العيارين والشطار” من الفتوة الذين حاولوا استبدال قوى حفظ النظام وجباية الضرائب بأنفسهم، مدَّعين بأنهم يأخذون من الأغنياء ويعطون للفقراء، بالضبط كما كان يفعل “روبن هود” Robin Hood في التراث الإنجليزي!