من الناحية المبدئية يستقيم الاعتقاد بأن أي حل يقبل به الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات بشكل ديموقراطي حقيقي لا بد أن يكون حلاً ممكناً لاستعصاء القضية الفلسطينية. ولكن الواقع يشي بأن كل الطيف السياسي في الكيان الصهيوني لا يسير بذلك الاتجاه لأسباب متعددة، قد يكون أهمها حالة العرقلة المتعمدة والمدروسة لكل إمكانيات حل الصراع العربي الصهيوني في المنطقة والتي تقوم بها الولايات المتحدة أساساً ومن لف لفها من دول حلف شمال الأطلسي وخاصة بريطانيا وفرنسا. وجوهر عملية العرقلة يستند إلى أن إسرائيل كيان وظيفي وقاعدة عسكرية متقدمة، ومركز تصنيعي متقدم، منخرط بشكل عضوي عميق في شبكة وبنيان المجمع الصناعي العسكري التقاني في الولايات المتحدة و توابعها في دول منظومة حلف شمال الأطلسي؛ بالإضافة إلى أن الكيان الصهيوني من الناحية العملية عبارة عن مجتمع على شكل ثكنة عسكرية كبرى، كوادرها مستعدون دائماً للقيام بكل العمليات العسكرية القذرة التي قد لا يتاح للولايات المتحدة القيام بها علناً نظراً لعدم موافقة شعبها على تلك العمليات، من قبيل التجسس المفتوح على أشخاص أو مجموعات، أو تدريب المليشيات شبه العسكرية و الانقلابية هنا وهناك، والتي تعمل لخدمة المصالح الأمريكية في غير موضع من أرجاء المعمورة، وغيرها من أشكال تسليح المجموعات المتقاتلة فيما بينها على امتداد الخارطة الكونية سواء بأسلحة إسرائيلية أو أمريكية عن طريق الوسطاء الإسرائيليين، والتي تعود عوائدها جميعها بالنهاية إلى خزائن شركات المجمع الصناعي العسكري التقاني في الولايات المتحدة أساساً.
ويستند نهج العرقلة الآنف الذكر إلى تحليل منطقي مفاده أن حلاً ما للصراع العربي الصهيوني سوف يؤدي إلى نزع المبررات التي ترغم المواطنين الإسرائيليين على العيش في مجتمع على شكل ثكنة عسكرية عملاقة متأهب لحرب وجودية في أي لحظة، وهو ما سوف يؤدي بشكل استتباعي لإفراغ الكيان الصهيوني من قدرته على القيام بدوره الوظيفي لخدمة مصالح الولايات المتحدة ومن لف لفها في المنطقة، نظراً لأن الحلحلة سوف تؤدي إلى حالة من السلم الاجتماعي التي لا تتفق مع تكوين الكيان الصهيوني كمجتمع حربي بامتياز على طريقة إسبارطة اليونانية التي كانت الحرب دينها وديدنها الوحيدين.
ومن ناحية أخرى فإن هناك مشكلة عضوية تتعلق بشح المياه العذبة في عموم الأراضي الفلسطينية سواء تلك المحتلة منها إبان نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948، أو تلك التي ألحقت بها في نكسة يونيو في العام 1967؛ وهي الحقيقة الدامغة التي يعرفها جيداً ساسة الكيان الصهيوني منذ الأيام الأولى لتأسيسه في العام 1948، والتي قد تجعل من المستحيل عملياً على ساسة الكيان الصهيوني التخلي عن مصادر المياه التي يسرقونها من الضفة الغربية والتي تمثل فعلياً أكثر من 80% من إجمالي مصادر المياه العذبة فيها، بالتوازي مع مصادر المياه العذبة في هضبة الجولان السورية، والتي تمثل أكثر من 20% من موارد المياه العذبة التي يستخدمها الكيان الصهيوني بكليته، وهو ما يرجح أيضاً شبه استحالة تخلي الكيان الصهيوني عن تلك الهضبة، وهو ما قد يجعل من حل الصراع العربي الصهيوني عملية معقدة على المستوى العربي أيضاً.
والنقطة الثالثة تتمثل في الرفض العميق والغير قابل للتغاير لدى ساسة الكيان الصهيوني، والذين ينخرط معظمهم في نسق النواطير المكلفين بخدمة وحماية مصالح السادة الأقوياء الأغنياء في العواصم الغربية وخاصة واشنطن، والشركات العابرة للقارات في المجمعات الصناعية العسكرية التقانية التي تتحكم بمفاتيح الحل والعقد الفعلية في تلك العواصم الغربية، لمبدأ عودة اللاجئين إلى أرضهم المسروقة منهم في داخل الخط الأخضر، إذ أن عودة أولئك اللاجئين سوف تؤدي إلى خلخلة التوازنات الديموغرافية وموازين القوى القائمة على الأرض، وقد تهدم الكيان الصهيوني من الداخل في حال عودة من يستحق من أولئك اللاجئين إلى أرض والديه أو أجداده في داخل الخط الأخضر، وهو ما سوف يقتضي تحول من سوف يعود منهم إلى داخل الخط الأخضر إلى مواطنين إسرائيليين، حتى لو كانوا من الدرجة الثانية، و لا بد من حصولهم على مزايا المواطنة التي يكفلها نموذج الدولة الديموقراطية الليبرالية الشكلية في إسرائيل، وخاصة فيما يتعلق بالحقوق الانتخابية، وحقوق ومنافع دولة الرفاه في المعاش التقاعدي، والتأمين الصحي، ومعونة البطالة عن العمل، وغيرها من المفاعيل التي لا بد أن تؤدي إلى إفلاس خزائن الكيان الصهيوني المادية إن لم يكن تداعياً كليانياً لبنيان الدولة القائم على شكل صريح من التمييز العنصري المستند إلى هيمنة اليهود على السكان العرب الأصليين بمسلميهم ومسيحييهم ودروزهم بشكل لا يختلف كثيراً عن ما كان الحال عليه في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا قبل انفراط عقده تدريجياً في خواتيم القرن العشرين.