قال تعالى” إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ”.
يعاني العراق اليوم من آفتين خطيرتين للغاية وأعني بهما آفتي الإبتزاز والإختلاس اللتين مزقتا النسيج المجتمعي وأصابتا السلم اﻷهلي وإقتصاد البلاد بمقتل ، اﻷول منها يُعرف على أنه التهديد بإفشاء أو نسبة أمور شائنة بهدف الحصول على ربح غير شرعي له أو لغيره والضغط لتوقيع محررات لنفس الغرض ، وقد أسهمت الثورة المعلوماتية وتحول العالم الى قرية صغيرة بفعل وسائل الإتصال الحديثة وإستشراء مواقع التواصل الاجتماعي على انتشاره كالنار في الهشيم بما يعرف اليوم بـ” الابتزاز الالكتروني ” واغلب ضحاياه من النساء حتى إن المحاكم لتغص اليوم بمئات الملفات والقضايا التي تتعلق بهذه الكارثة التي لم يكن لمجتمعاتنا المحافظة معرفة بها ولو بالحد اﻷدنى الى قبل عقد ونيف من الزمن ما تسبب باﻵف حالات الطلاق والتفكك اﻷسري والخيانات الزوجية وإنعدام الثقة وقطيعة اﻷرحام بل والقتل والإنتحار والنزاعات العشائرية ايضا ، ما إستدعى تنظيم عشرات المؤتمرات والندوات وورش العمل لبيان خطر الابتزاز الالكتروني و إستعراض الطرق المثلى للوقاية منه وسبل الحد من مخاطره المرعبة !
الاختلاس بدوره أصبح ظاهرة بشعة للغاية يمارسها الكثير ممن يتسنمون المناصب العليا والدنيا ويؤتمنون على المال العام للحفاظ عليه واذا بهم يستغلون مناصبهم لسرقة ما أؤتمنوا عليه مع تزوير الوثائق والمستندات والعقود ذات العلاقة لإخفاء معالم جريمة الاختلاس وتقاضي الرشى أو دفعها لهذا الغرض ، ومن ثم حرق الطوابق المخصصة لحفظها عند إفتضاح جرائمهم النكراء ليدون الحريق ضد التماس الكهربائي كما جرت عليه العادة وليفلت المختلسون والمرتشون والمزورون من العقاب وإفتعال الحرائق المتعمدة على سواء !
وأشد ما يحزنني في هاتين الجريمتين البشعتين هو الإنحياز المتعمد بتناولهما وضيق الافق في التعامل معهما انطلاقا من العصبيات بمعنى تضخيم إختلاس الخصم السياسي ، العرقي ، المذهبي ، العشائري ، الديني ، وإشهاره والتشهير به أمام الملأ مقابل تقزيم إختلاس التابع والمريد وإخفائه أو التقليل من شأنه وكأن شيئا لم يكن ، إضافة الى الإقتصار على تناول الابتزاز الالكتروني برغم خطورته فحسب من دون بقية انواع الابتزاز الشائنة اﻷخرى التي لاتقل سوءا عنه كالإبتزاز السياسي الذي تمارسه اﻷحزب والكتل والتيارات المتنفذة ضد بعضها سرا وجهرا كوسيلة ضغط للحصول على المناصب التي تطمع بها انطلاقا من ميكافليتها التي أرضعتها صناعيا وطبيعيا ، وكذلك الابتزاز الفضائي الذي تمارسه القنوات المملوكة لسياسيين من المال الحرام وعادة ما تلجأ تلكم القنوات من خلال نشراتها الاخبارية و برامجها الحوارية – التوك شو – الى استضافة سياسيين يلوحون بفضح ملفات فساد معينة ضد جهات مناوئة من دون الاستغراق بتفاصيلها وﻻ الكشف عن أسماء المتورطين بها ليتم الاتصال بعيد البرنامج بإدارات تلك القنوات لتسوية القضايا العالقة بعيدا عن الضوضاء مقابل وعد بمناصب أو عقد صفقات مشبوهة أو التكتم على ملفات فساد مشابهة يمتلكها الطرف اﻵخر ضدهم لتظل طي الكتمان لطالما احتفظ الطرف اﻷول بسكوته وبناء عليه فأنا لا أثق كثيرا بتلك البرامج التي تزعم كشف الحقائق للناس مع انها لاتكشف الحقيقة بقدر الإبتزاز والتعتيم عليها واقعا ما يفسر لنا أسباب تقلب مقدميها وانقلابهم على المستضافين خلالها بين مدح وقدح بين فينة وأخرى فمن يتابعهم يعلم يقينا حجم نفاقهم وتقلباتهم وتغيير جلودهم بين حوار وحوار حتى أن عدو اﻷمس وفاسده الخائن العميل على حد وصف الحلقات السابقة لذات البرنامج يصبح ولي اليوم الحميم ونزيهه الوطني الشريف بقدرة قادر ..وﻻيفوتني التذكير بالابتزاز الدولي والاقليمي بحق العراق وشعبه الصابر فأميركا تبتزنا منذ عام 1990 وتفرض علينا شروطا تعجيزية لتنفيذ اجندتها واﻻ فالحصار والدمار والمقاطعة قائمة لحين الامتثال لإبتزازها المستمر لافرق في ذلك بين رؤساها الجمهوريين والديمقراطيين ، ولن ننسى ابتزازات دول الجوار الاقليمي المتواصلة منذ 29 عاما لتحقيق مصالحها وفرض اراداتها على المشهد العراقي برمته ف بدءا بأيران وانتهاء بالسعودية مرورا بالكويت وتركيا وسوريا ، فهذا يبتزنا بالمياه وذاك بالكهرباء واخر بالديون ورابع بترسيم الحدود والابار النفطية المشتركة وهكذا !
ولشحذ الذاكرة بشأن الابتزاز السياسي لمنعه والحيلولة من دون تكراره حسبي أن اتناول جانبا من الفظائع التي تسبب بها على مر التأريخ المعاصر واستهلها بـعبارة “سيكون شعبي فخورا بي بالتأكيد” التي أطلقها الرئيس الاندونيسي الاسبق احمد سوكارنو المغرم بالنساء والضعيف أمامهن مدوية حين حاولت المخابرات الروسية إبتزازه بصور فاضحة سجلتها له خلسة في موسكو ، تماما كتلك التي صورت له في القاهرة بكاميرات سرية لطالما نصبها رئيس المخابرات العامة المصرية سيء الصيت والسمعة ” صلاح نصر ” للايقاع بضحاياه ، نصر الذي جند 100 فتاة بينهن ممثلات شهيرات أبرزهن سعاد حسني ، لتصوير كبار المسؤولين والسياسيين المصريين والعرب بأوضاع مخلة ومذلة لضمان السيطرة عليهم وابتزازهم ، نصر الذي نجح بإغواء المشير عبد الحكيم عامر بالزواج العرفي من ممثلة الاغراء ،برلنتي عبد الحميد لإبتزازه والسيطرة عليه وهما أحد أسباب هزيمة حزيران عام 1967 أمام الكيان الصهيوني المسخ وضياع القدس والضفة الغربية وسيناء والجولان بستة أيام فقط لاغير ليدخل الاعور الدجال موشي دايان ويقف عند حائط البراق – حائط المبكى عندهم – منتشيا بالنصر الذي صنع بفروج الغانيات والمطربات والراقصات ودواعر ضباط اﻷمن و المخابرات العرب آنذاك الغارقين بالجنس والخمر والمخدرات ما أسفر عن ضياع اﻷوطان والمقدسات حتى كتابة السطور ، المبتزون الوضيعون الساديون هؤلاء على شاكلة صلاح نصر المصري وناظم كزار العراقي ورفعت الاسد السوري ، كانوا يتنمرون على أبناء جلدتهم ويذيقونهم سوء العذاب ويتبخترون أمامهم ، فيما كانوا يخطبون ود أعدائهم ويتبخرون ويتضاءلون حيالهم تماما كما قال الشاعر في أمثالهم قديما :
أسَـدٌ عَلَيَّ وَفي الحُروبِ نَعامَــةٌ رَبْداءُ تجفلُ مِن صَفيرِ الصافِرِ
وقد تناولت الافلام العربية – جرائم نصر – كما تناولت الابتزاز المختلط بالجنس لخطورتها حتى قبل دخول الهواتف الذكية بسنين طويلة وأشهرها فيلم ” ابتزاز ” 1999 بطولة جميل راتب الذي ناقش أربع قضايا كل واحدة منها أشنع من اﻷخرى وكلها موجودة بين أظهرنا حاليا “الجشع ، الاغواء ، القتل العمد والإيهام على انه انتحار ، الابتزاز ” .
أما عن أشهر ثلاثة إفلام عربية تناولت جريمة الاختلاس أو حامت حولها فهي فيلم ” أم العروسة ” بطولة عماد حمدي الذي يقرر إختلاس المبلغ الذي بعهدته المالية لتزويج إبنته وقد رشح الفيلم ﻷوسكار افضل فيلم ناطق بغير الانكليزية ، وكذلك فيلم ” رمضان فوق البركان ” لعادل امام الموظف الذي يختلس حقيبة رواتب الموظفين للزواج من حبيبته فيُسرق على يد عصابة استبدلت حقيبته بأخرى ، وفيلم ” ولدي ” وهذا له قصة عجيبة خلاصتها ان منتج الفيلم وهو موظف وقع في غرام الفنانة كاميليا التي عشقها الملك فاروق والتي قضت لاحقا بإنفجار طائرة غامض أودى بحياتها عام 1950 قيل أن فاروق هو من دبره لها وسبق لكاميليا التي طبقت شهرتها اﻵفاق آنذاك أن اتهمت بالتجسس لصالح الكيان الصهيوني ﻷن والدها كان يهوديا ” منتج الفيلم اختلس أموالا من الشركة التي يعمل بها لإنتاج الفيلم بغية التقرب الى حبيبته على امل اعادة ما اختلس الى الخزنة من أرباح الفيلم اﻻ انه كان عاثر الحظ اذ افتضح أمره وسجن اثناء عرض الفيلم الذي منيُ بفشل ذريع فـ – ضاع الخيط والعصفور – !
ولو تأملت في قصص الافلام الثلاثة وكواليسها مجتمعة لتوصلت الى أنها تريد تبرير جريمة الاختلاس وشحذ العواطف تجاه المتورطين بها حتى أن المشاهد وطيلة مجريات الفيلم يتمنى لو يتم إعفاء المختلسين من العقوبة وأن يتم سداد ما بذمتهم من عهدة مالية عبثوا بها للضرورات غير الملجئة وهذا لعمري أس الفساد والافساد والضحك على ذقون المشاهدين والعبث بمشاعرهم وعقولهم ، وربما لتبرير الاختلاسات والسرقات لخزينة الدولة التي يقوم بها رجال السلطة النافذين آنذاك !
المشرع العراقي تعامل مع جرائم الابتزاز ضمن قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 وادرجها ضمن جرائم التشهير”، أما جريمة الاختلاس المخلة بالشرف فهذه تشكل مع التزوير والرشوة والابتزاز والتهديد بالتشهير وتشويه السمعة أكبر بوابة لسرقة المال العام والخاص والعبث به والاستيلاء على عقارات الدولة وممتلكاتها وتحويل ملكيتها في العراق ويعاقب عليه بحسب المواد (315-320) من قانون العقوبات (111) لسنة 1969 اذ نص القانون على عقوبة الاختلاس بـ “يعاقب بالسجن كل موظف او مكلف بخدمة عامة اختلس او اخفى مالا أو متاعا أو ورقه مثبته لحق أو غير ذلك مما وجد في حيازته”.
وخلاصة أسباب النجاة من كل ذلك الهرج والعبث الذي أحاط بنا إحاطة السوار بالمعصم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم (إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا) فأين نحن من كل تلكم التعاليم السامية والمثل النبيلة التي اوصى بها النبي الاكرم صلى الله عليه وسلم وحيا من الشارع الحكيم ؟ وفي حديث شريف آخر قال الحبيب الطبيب صلى الله عليه وسلم ” سيصيب أمَّتي داء الأمم” ، قالوا: يا نبيَّ الله، وما داء الأمم؟ قال: الأشَرُ والبَطَرُ، والتَّكاثر والتشاحن في الدُّنيا، والتَّباغض، والتَّحاسد حتى يكون البغي ثمَّ الهرج” ، وبناء على ما تقدم لابد من التعامل مع جريمتي الاختلاس والابتزاز بشدة بعيدا عن العصبيات والانحياز لهذا الطرف او ذاك فالكل ومن المفترض أنهم أمام القانون سواء ، مع تشديد العقوبات بحق المتورطين مهما كانت مراتبهم وانتماءاتهم وعلى النساء الحذر كل الحذر من نشر صورهن الشخصية ويومياتهن على مواقع التواصل أو الاحتفاظ بها في الهواتف الذكية المعرضة للقرصنة عبر الهاكرز والكراكرز كتعرضها للسرقة والاعطال المفاجئة المؤدية الى تسريب المعلومات المفضية الى الابتزاز ، والحذر من التحدث مع الغرباء والثقة بهم وتبادل الرسائل والصور الشخصية ومقاطع الفيديو الخاصة معهم والتساهل في ذلك والتكاسل في تغيير الباسوورد وتفعيل أمان الملفات الشخصية بين حين واخر فكلها اسباب اسفرت عن انتشار ظاهرة الابتزاز الالكتروني وغرق المحاكم بطوفان من الشكاوى والدعاوى المتعلقة بها ، إنها إضاءة على الذين إختلسوا الشمس – بغداد – وإبتزوها وخلف سحب الدخان اﻷسود في ليل حالك الظلمات حجبوها ثم تحت التراب واروها وما أكرموها .اودعناكم اغاتي