قال تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ “.
لن أبالغ اذا ما قلت واﻷلم يعتصر قلبي بأن هناك شبه إجماع بين العراقيين على،ان ظاهرة “دهن الزردوم ” وهي كناية شعبية عن الرشوة من شأنها إنجاز معاملتك على وجه السرعة والاتيان بها مع كتاب شكر وتقدير الى غرفة النوم ، ولن أجانب الصواب اذا ما أقررت بأن جل العراقيين واذا ما عزم أحدهم على الشروع بإنجاز معاملة ما في أية دائرة رسمية فإن معظم المقربين من حوله سينصحونه بـ” دهن سير ” أحدهم للاسراع بتمشيتها على حساب اﻵخرين ممن يقفون طوابير طويلة وﻷسابيع تحت أشعة الشمس اللاهبة صيفا وتحت البرد القارس وزخات المطر شتاء بإنتظار الفرج في ولاية – هرج ومرج – التي إختلطت فيها مادية الرأسمالية الوافدة بمجانية اﻷشتراكية الراكدة فترى المواطن المسحوق يتسلم حقوقه اشتراكيا – بالقطارة – فيما يسدد مستحقاته رأسماليا – بالهبل – ذاك ان الحصار الاميركي الغاشم قد أرسى قواعد – الفوضى غير الخلاقة – بين شرائح المجتمع العراقي كافة تحت تأثير العوز والفاقة التي عانى منها العراقيون اﻷمرين لمدة 13 عاما فكان وباء الرشوة الذي إنتشر كالطاعون اﻷسود أحد أبشع صور تلك الفوضى العارمة التي حرمَها على نفسه من حَرمها ، وأحلها لنفسه من أحلها ، ومؤكد أنها واحدة من أهداف الادارة الاميركية لتدمير المنظومة الاخلاقية والقيمية ككل ليس في العراق فحسب وإنما في جميع الدول العربية والاسلامية على التوالي !
نعم الكل متفق بأن الرشوة التي حرمتها جميع الشرائع والاديان السماوية هي”أم الفساد “وأس الإفساد المالي والاداري والسياسي فكل ماجرى في العراق من إنهيار أمني وزراعي وتجاري وصناعي وصحي وتعليمي وسياسي زكمت منه اﻷنوف كان للرشوة نصيب فيه بشكل أو بآخر ،كل المناقصات والمزايدات وإبرام العقود الفاسدة بضمنها بيع النفط العراقي- كرسته وعمل – ضمن جولة التراخيص الى الشركات الاحتكارية قد لعبت الرشوة جانبا خطيرا فيها ،كل الفاسدين الذين تسنموا المسؤولية إنما جعلوا الرشوة كجعل الثوريين جماجمنا لمناصبهم سلما ، بدءا بشراء أصوات الناخبين وإنتهاء بتزوير صناديق الاقتراع ، إﻻ أن الفارق الكبير بين (داهني السير) “العالميين و( داهني الزردوم ) المحليين هو أن الفئة اﻷولى وحين يكتشف أمرها ويُفتضح سرها فأنها تلجأ الى الانتحار ، تتوارى خجلا عن اﻷنظار ، تسلم نفسها الى السلطات تحت جنح الظلام أو في وضح النهار ، تأبى الترشح ثانية لما لحق بها وبحزبها من عار ، تولي هاربة الى دول الجوار أو ماوراء البحار ، فيما الفئة الثانية التي تعيش بين ظهرانينا هاهنا في ولاية ” رشوستان الدهن سيرية الرأسما اشتراكية ” سرعان ما تظهر على الشاشات بعد الفضيحة مباشرة بكامل أناقتها وصلافتها لتبرر صنيعها ، لتنكر الرشوة وبعناد ،لتتباهى بها ، لتقلل من شأنها بإعتبار ان جميع اﻷحزاب والكتل السياسية المتنفذة متورطة بالرشوة والفساد ” واليوصل حدنه انكص ايدو ” ، لتهاجم كل من يفضح فسادها وتهددهم على الهواء مباشرة بالملاحقة والمطاردة وكشف الملفات المضادة بحقهم ، وربما تعترف بالرشوة عيانا بيانا وبكل جرأة أيضا وﻷكثر من مرة وهي تبتسم للكاميرا !
اللافت أن النشرات الاخبارية ضجت في اﻷونة الاخيرة بأخبار انتحارات وإستقالات وإعتقالات طالت كبار السياسيين والمسؤولين في العالم بسبب الفساد والرشوة كان من أبرزها إعتقال نجم الثمانينات و الرئيس السابق للاتحاد الأوروبي لكرة القدم ميشيل بلاتيني ، على خلفية تهم فساد وتقاضي رشى لإسناد بطولة كأس العالم 2022 إلى قطر، سبقها إنتحار رئيس البيرو السابق ، آلان غارسيا بإطلاق النار على رأسه قبيل اعتقاله لتورطه بتهم رشى بقيمة 29 مليون دولار دفعتها على مراحل شركة أوديبريشت البرازيلية للبناء المعروفة بدفع الرشاوى حد وصفها بـ” ادارة الرشى ” لإرساء عقود وإستدراج متتفذين بضمنهم رؤساء جمهوريات لصالحها في 10 دول ، ايقاف خمسة ضباط برتب مختلفة في قوى الأمن الداخلي اللبنانيﻷربعة أشهر على خلفية تقاضي الرشوة ،انتحار وزير الزراعة والثروة السمكية الياباني توشيكاتسو ماتسوكا قبل ساعات من مساءلته برلمانيا بتهم فساد ورشى ، فضائح هزت الاوساط المصرية تضمنت تصوير العديد من الافلام الاباحية اﻷجنبية في الاهرامات بعد رشوة عناصر في الشرطة السياحية ومسؤولي الاثار وبمساعدة ما يسمى بـ” الخرتية ” وهم ثلة من المرشدين السياحيين والمترجمين الشباب ممن يرافقون السياح للنصب عليهم والافادة منهم ، تورط نائب رئيس شركة سامسونغ ، لي جاي يونغ ، بدفع رشاوى بقيمة 25.46 مليون دولار ، انتحار – أو اغتيال – الأمين العام لمجلس الدولة المصري وائل شلبي داخل محبسه بعد فضيحة رشوة ، بما لم تسمع بمثلها محليا فلو أدين – الكوسج – العراقي بتقاضي رشى بالمليارات لقاء إرساء المناقصات على الشركات واذا ما حدث أمر ما فإن حرق الطوابق المخصصة للعقود يأتي كطوق نجاة درج عليه الفاسدون بمباركة أحزابهم للتغطية على جرائمهم النكراء بحق الشعب المظلوم ومن ثم تعليق الحريق على شماعة التماس الكهربائي حتى قبل وصول سيارات الاطفاء الى مكان الحادث !
الرشوة ، البراطيل ، دهن السير ، دهن الزردوم ، كلها مصطلحات درج عليها الناس لدفع مقابل مادي أو معنوي بغرض إحقاق باطل ، أو إبطال حق ، اذ تعددت الأسماء والرشوة واحدة ، وقد لعن النبي الاكرم صلى الله عليه وسلم ” الراشي والمرتشي والرائش”، واﻷخير هو الوسيط بين الطرفين في قضية الرشوة التي يعاقب عليها القانون العراقي وفق المواد 307 – 314 ونصت المادة اﻷولى منها على ، ان ” كل موظف او مكلف بخدمة عامة طلب أو قبل لنفسه أو لغيره عطيه أو منفعة او ميزة أو وعدا بشيء من ذلك ﻷداء عمل من أعمال وظيفته أو الامتناع عنه أو الإخلال بالواجبات الوظيفية يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على عشر سنين او بالحبس والغرامة..”.
ومن عجائب الرشوة أن أول ذكر لها في التأريخ جاء في بردية فرعونية محفوظة في المتحف البريطاني تتحدث عن فساد كبير العمال المدعو ” بانب”والذي قدم رشوة الى الوزير عبارة عن 5 من الخدم للحصول على المنصب الذي شغله لـ 3 عقود متتالية ، ويقدر البنك الدولي وهو أكبر منظمة أسوة بنظيره صندوق – الحقد وليس النقد – الدولي لتجويع الشعوب ونهبها ، أن ” الرشوة حول العالم تزيد على 1.5 تريليون دولار سنوياً!!”وقد حل العراق في قائمة الدول الـ 10 الاكثر فسادا في العالم التي تصدرها منظمة الشفافية الدولية ومقرها المانيا ، حيث حل بالمرتبة 166 مناصفة مع فنزويلا من اصل 176 دولة ضمن تصنيف 2016 ، فيما حل بالمرتبة 168 في تصنيف المنظمة ذاتها لعام 2018 ، الاعجب أن ” رئيسة منظمة الشفافية ديليا فيريرا قالت تعقيبا على التقرير ، إن ” احتمالات تفشي الفساد تكون أكبر حيث تكون الأسس الديمقراطية ضعيفة، وحيث يستخدم السياسيون الفساد لصالحهم وﻻ حل لهذه الافة اﻻ بمنح المواطنين حرية الاعتراض على الفساد وتحميل المسؤولين اسباب تفشيه ، اضافة الى منح الصحفيين الحرية لكشف ملفات الفساد والفاسدين من دون التعرض لهم بسوء ، فضلا عن تطبيق برامح مكافحة الفساد واقعا وعدم الاكتفاء بالتنظير والجعجعة الفارغة بشأنه ”.
والحل يكمن في إجنثاث الرشوة والمرتشين من جميع المؤسسات قولا وفعلا ، تفعيل الجهات الرقابية على ان لاتضم مرتشين بين صفوفها وان ﻻ تتقاضى بدورها الرشوة ، تفعيل صناديق وهواتف الابلاغ الفوري عن المرتشين وتعليقها في مكان بارز في كل دائرة حكومية ، اطلاق حملة وطنية شاملة ضد الرشوة واطرافها الثلاثة ” الراشي والمرتشي والرائش ” تتعاضد فيها الجهات المعنية وعلى المستويات كافة ، استخدام الكاميرات لمراقبة سير انجاز المعاملات عن كثب ، اللجوء الى مراجعين مكلفين بكشف مواطن الرشوة والمتورطين بها في الدوائر الحكومية كافة، بث البرامج التوعوية وطباعة البوسترات و النشرات التحذيرية وتعليقها في الاماكن العامة ، تخصيص جانب من خطب الجمعة والتحقيقات الاستقصائية والبرامج الاذاعية والتلفزيونية للتحذير من خطر الرشوة الداهم وما تسببه من فقدان ثقة بين المواطنين ومؤسساتهم الحكومية وتلويث سمعة الموظفين وغمط حقوق الفقراء والمساكين واكل أموال الناس بالباطل وتوسيد اﻷمر الى غير اهله وتولي الفاسدين المسؤولية ، ولله در الشاعر علي محمد بني عطا ، القائل في كبيرة الرشوة التي غلظ عقوبتها الاسلام الحنيف :
لــَـعـــَـنَ الـرَّســـُــولُ الــْـمــُـرْتــَـشــيـنَ وَمـَـنْ رَشــَــوْا ..وَالـرَّائــِــشــيـنَ ، فـــَــمــَــنْ أولـــئــِــكَ يــُــنــْــجــــِـــدُ
اودعناكم اغاتي