23 ديسمبر، 2024 5:35 ص

آساطير ألأولين – يونس والحوت

آساطير ألأولين – يونس والحوت

(( فأعد الرب حوتا عظيما لإبتلاع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة ايام وثلاث ليالي)) …. نبؤة يونان/  العهد القديم (التوراة) الفصل الثاني-1.
(( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ )) ……سورة الصافات- الآية 142. / القرآن الكريم
(( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ )) ….. سورة القلم-  الآية 48./ القرآن الكريم
جاء في تفسير ابن كثير للآية 142 من سورة الصافات مايلي:
أَمَرَ اللَّه تَعَالَى حُوتًا مِنْ الْبَحْر الْأَخْضَر أَنْ يَشُقّ الْبِحَار وَأَنْ يَلْتَقِم يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا يُهَشِّمُ لَهُ لَحْمًا وَلَا يَكْسِر لَهُ عَظْمًا فَجَاءَ ذَلِكَ الْحُوت وَأَلْقَى يُونُس عَلَيْهِ السَّلَام نَفْسه فَالْتَقَمَهُ الْحُوت وَذَهَبَ بِهِ فَطَافَ بِهِ الْبِحَار كُلَّهَا . وَلَمَّا اِسْتَقَرَّ يُونُس فِي بَطْن الْحُوت حَسِبَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسه وَرِجْلَيْهِ وَأَطْرَافه فَإِذَا هُوَ حَيّ فَقَامَ فَصَلَّى فِي بَطْن الْحُوت وَكَانَ مِنْ جُمْلَة دُعَائِهِ يَا رَبّ اِتَّخَذْت لَك مَسْجِدًا فِي مَوْضِع لَمْ يَبْلُغهُ أَحَد مِنْ النَّاس وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَار مَا لَبِثَ فِي بَطْن الْحُوت فَقِيلَ ثَلَاثَة أَيَّام قَالَهُ قَتَادَة وَقِيلَ سَبْعَة قَالَهُ جَعْفَر الصَّادِق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقِيلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَالَهُ أَبُو مَالِك وَقَالَ مُجَاهِد عَنْ الشَّعْبِيّ : اِلْتَقَمَهُ ضُحًى وَلَفَظَهُ عَشِيَّة وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم بِمِقْدَارِ ذَلِكَ وَفِي شِعْر أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت : وَأَنْتَ بِفَضْلٍ مِنْك نَجَّيْت يُونُسَا وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَاف حُوتٍ لَيَالِيَا …. انتهى.
التنسيب في الاساطير تعني الكشف الاول  عن القداسة، الذي يتم بفعل التنسيب في مرحلة المراهقة، وبين كشوف لاحقة تجري لجماعات باطنية مغلقة بإحكام، بل وكشوف عن القداسة تاتي لنخبة، وتؤلف علامة على دعوتهم الى اداء رسالة، وعلى نداء داخلي صادر عن اعماقهم (كما حدث في قصة النبي يونس).
ان اختبار التنسيب في اساطير الاولين يقضي بابتلاع المريد من قبل تنين ، بصورة رمزية. وهنالك بدائل كثيرة العدد لذلك الطقس كاسطورة ابتلاع الحوت للنبي يونان الذي ورد قصته في  التوراة ( النبي يونس في القرآن). ففي نبؤة يونان في العهد القديم (التوراة) الفصل الثاني-1 جاء: ( فأعد الرب حوتا عظيما لإبتلاع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة ايام وثلاث ليالي))، وجاء في الفصل الثاني-11، (( فأمر الرب الحوت فقدف يونان في اليبس )).
إن الرمزية الكامنة في قصة يونان (النبي يونس) يتناول سرا دينيا خاصا بالموت والانبعاث الرمزيين.
في بعض الاقطار تضم طقوس تنسيب المراهقين دخول المريد في قالب يمثل حيوانا مائيا هائل الحجم ممسوخا، اشبه بالتمساح والحوت والسمكة فابناء قبيلة بابوس في غينيا الجديدة كانوا يصنعون قالبا من خشب النخيل يُدعى كيمونو يُمثل تنينا هائلا سيء الملامح ويحتفظون به في بيت الرجال. كانوا يُدخلون المريد عند تنسيبه في كرش دلك التنين.
اما الشامان (رجل الدين او الساحر) في القبائل الساكنة في سيبيريا والاسكيمو في القطب الشمالي، فيدخل بالفكر، خلال الانخطاف، امعاء سمكة هائلة الحجم او امعاء حوت، فالامر في هده الحالة يتعلق برحلة وجد تتم بالفكر والخيال الى بطن تنين بحري.
في التراث الفنلندي كان الحداد إيلمارينان ذات يوم يغازل فتاة رائعة الجمال، فاشترطت عليه حتى تقبل الزواج منه ان يصطاد الحداد سمكة هائلة الحجم، وعندما فعل التهمته السمكة فصار في احشائها. ثم هبط الى امعائها، وراح ينتفض فتوسلت اليه السمكة، ورغبت ان يخرج من الخلف. فاجابها: (انا لن اسلك هدا السبيل، ولو فعلت ساكون موضع هزء وسخرية من الناس جميعا)، عند ذلك اقترحت السمكة ان يخرج من فمها. اما الحداد فرفض طلبها وقال: (لو اتيت هدا الفعل، سيقول الناس: هذا الحداد تقيأته السمكة) ثم واصل انتفاضته بالعنف والشدة الى ان تفجر جسم السمكة المسكينة، وتناثرت ابعاضها.
نلاحظ ان الغول البحري يقوم بدور مزدوج في هذه الاساطير, وان السمكة الهائلة التي ابتلعت النبي يونس ( يونان في التوراة) وسائر الابطال الاسطوريين ترمز الى الموت، وان بطنها يمثل الجحيم. لقد جرى في رؤى البلدان المطلة على بحر الابيض المتوسط، تصور الجحيم بصورة معتادة، تحت شكل تنين بحري هائل، ربما يتخذ نموذجه القديم من اللويثان*، الذي تتحدث عنه التوراة.
ان يُبتلع المرء يوازي اذن موته، في نظر الاقدمين، وهذا ما نلخص اليه بكل وضوح من جميع الطقوس البدائية المتصلة بالتنسيب. ومن جهة اخرى يعني ايضا، الولوج الى احشاء التنين الالتحاق بحالة جنينية سابقة لتكوين الاشكال.
ان الظلمات التي تخيم في بطن التنين تقابل الليل الكوني، وتعادل حالة السديم والعشوائية التي كانت قبل الخلق. بتعبير آخر، نحن امام رمزية مزدوجة: رمزية الموت، اي نهاية  الزمان، ورمزية الارتداد الى وضع البذور وإلى بداية التكوين والإنشاء، والى حالة سابقة لكل شيء، وسابقة لكل وجود في الزمان.
ان ابتلاع التنين او الحوت طالب التنسيب له دور مهم في التقاليد الطقسية، وعلى حد سواء في اساطير الابطال، وفي الميثيولوجيات المعنية بالموت، الامر يتعلق بسر ديني يقتضي اداء الاختبار التنسيبي الاشد هولا، اختبار الموت، لكنه يؤلف بطبيعة الحال، السبيل الوحيد المتاح من اجل الغاء الديمومة الزمنية، اي من اجل ازالة الوجود التاريخي، واستعادة الوضع الاولي البدئي. هده الاستعادة لحالة البذور، لحالة كمون الوجود انما توازي بدورها ايضا الموت.
وبهدا الاعتبار فالإنسان يقتل وجوده الخاص الدنيوي، الوجود التاريخي، الذي اصابه الإنهاك والإهتراء، من اجل استعادة الطهارة والبراءة، والوجود المنفتح الغير الملطخ بادران الزمان. ان الموت من خلال تلك السياقات التنسيبية ( الدخول في بطن الحوت او التنين) يعمل على الخلاص من الماضي، وعلى وضع حد الى وجود خائب- شأن اي وجود دنيوي لا صلة له بالقداسة- من اجل استئناف وجود آخر  الى حياة جديدة، وهدا ما حدث للنبي يونس بعد خروجه من بطن الحوت.
وفي اسطورة ايتانا والنسر السومرية التي تطرقنا اليها في بحث سابق (حكايات جدتي واسطورة ايتانا والنسر-2)  قلنا: لقد كان على النسر أن يموت رمزياً في باطن الأرض– الأم، لكي يُبعَث من جديد معافى ومزوداً بقوى تتعلق أيضاً بالإخصاب زوَّدته بها ننخرساج، الأرض.
لقد هبط النسر أولاً من القمة إلى الأرض حيث جحر الحية، ثم هبط أعمق من ذلك في غياهب البئر حيث رحم الأرض، لينطلق بعد ذلك في طلب النبتة التي تتعهدها بالرعاية عشتار إلهة الخصوبة الكونية. هذا المغزى السرَّاني لعلاقة النسر بالحية يفسر لنا عدم جدية العِقاب الذي تعرَّض له النسر، ومسارعة الإله شمش إلى العفو عنه ليوكل إليه المهمة التي صار الآن صالحاً لها، بعد أن تحول، عبر الطقس الذي مر به، من نسر عادي إلى نسر قادر على إتمام مهام لا يقدر عليها غيره.
وتماثل هده الحالة عقاب الله للنبي يونس بجعل الحوت يلتقمه، (( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)- الآيات 142-147 من سورة الصافات.
 فهنا نجد بان العقاب لم يكن جديا، لان الله عفى عنه وارسله لهداية قومه ((وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ))- الآية-147 من سورة الصافات.، وكل ما في الامر، ان النبي يونس مر بطقس تنسيبي ليكون جاهزا لتحمل مشاق الدعوة.
وما دمنا نتحدث عن طقس التنسيب فإن طقوس الحج والعمرة في الدين الإسلامي هي عملية تنسيب ايضا، فالحاج او المعتمر يموت اثناء الحج والعمرة طقسيا، بدليل لبسه كفنا ابيض اثناء الطقوس ومن ثم يتصفى من ذنوبه بعد انتهاء طقوس الحج او العمرة كمن ولدته امه من جديد.
*اللويثان : هو تنين مخيف يتحدث عنه التوراة (العهد القديم)، عندما يُثار يكون بمقدوره ابتلاع الشمس، تخرج من فمه مشاعل ويتطاير منه شرر النار/ سفر ايوب- الفصل الاربعون والحادي والاربعون.
مصادر البحث :
– الاساطير والاحلام والاسرار – ميرسيا ايلياد.
– التوراة.
– القرآن الكريم.