23 ديسمبر، 2024 9:02 ص

آدم ليس أول البشر – 7

آدم ليس أول البشر – 7

نعود الى الروايات لنحاول معالجة ما قد يتصور لأول وهلة أنه تعارض بينه، وأخص منه الاختلاف في تعدد الآدميين قبل آدمنا الأخير، والذي يجب أن نفهم مما سبق أنه ليس أباً لكل البشر وإنما هو أب لخصوص الجيل المختار، ولعلنا نستطيع القول أن أوضح مصاديق أبناء آدم هم سكان الرافدين الأوائل وبعض بلاد الشام وعيلام ووادي النيل، ووجه اختيار هذه البلدان أنها جميعاً تنتهي إلى أصل واحد نزح منذ أمد بعيد من الجزيرة العربية أيام كانت بلاد خضراء كما يؤكد الآثاريون، ولكنها أجدبت فأدَّى ذلك الى الهجرة الى الجهات التي يتوخون فيها وجود الماء العذب ودرجة الحرارة المعتدلة، ونعلم أن الجزيرة خالية من الأنهر منذ عهد بعيد، أما باقي البشر فهم يقسمون الى أصناف عديدة ولكن ليسوا من ولد آدم، وإلى صنف معين سمي في النصوص بالجان، الذين هم أيضاً جنس بشري اعتيادي (وهذا ما سنتركه لبحث مستقل بإذن الله تعالى)، أما باقي أصناف البشر فهم أحفاد البشرية القديمة التي سبقت آدم وإن كانت قد تطورت لتكون مشابهة لشكل وبنية آدم، مع اختلافات لا تخفى على المتأمل، وهم أصناف متعددة يذكر منهم حالياً الجنس الأبيض الأصفر والأحمر والأسمر وغيرها، أما الأصناف على ما جاء في النصوص فهم أكثر من ذلك بكثير وهو تصنيف أكثر منطقية من التصنيف المتعارف حالياً نظراً لوجود اختلافات كبيرة بين جنس وآخر، فقد جاء في حديث طويل ((عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال : الناس خلقوا على ستين لوناً)). المفيد، الإختصاص 48. المجلسي، البحار 60 : 81.
ومن الملاحظ أن الاختلافات بين البشر على الأرض كثيرة وعميقة، وقد جاء في القرآن أن الله اصطفى آدم وولده على باقي البشرية كما أوضحنا ذلك، ومن الطريف أن معنى الاصطفاء متفق مع معنى الانتخاب الطبيعي، فما تم إيعازه الى الطبيعة يكون وفق الفهم الديني انتخاب إلهي وهو نفس معنى الاصطفاء دون ريب، ولهذا لم تكن هناك حضارة تميز البشر عن الحيوان الا بعد الاصطفاء والوعي، وهو ما تميزت به المنطقة التي ينتمي إليها آدم وبنوه، ونعرف أن أقدم الحضارات وتأسيس الثقافة البشرية إنما وجدت في السهل الرسوبي الذي يشمل جنوب العراق وإيران وأيضاً وادي النيل، بل من المؤكد أن نصوص الحضارة الأولى سواء النصوص الدينية في التوراة والقرآن والحديث الإسلامي أو ألواح وآثار بلاد الرافدين تحدد الموقع الجغرافي لآدم وبنيه في الجنوب العراقي، وهنا لا بد أن نفهم أن معنى الاصطفاء والعبادة وخلافة الله في الأرض تعني بشكل من أهم أشكالها إعمار الأرض، فالاصطفاء يعني الوعي والذكاء والتمايز عن عالم الحيوان، ونتيجة الوعي الابتكار واستثمار المحيط لجعل الحياة أفضل، أما العبادة كما في قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56، فمن أهم مصاديقها العبادة العملية التي تعني الإعمار وأداء الوظيفة التي تتناسب مع الكائن، ومنه نفهم معنى الآيات القرآنية التي تتحدث عن عبادة وتسبيح الجمادات والظواهر : {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } الرعد 13، فتسبيح الرعد هو عمله التكويني الذي صوت الاصطدام بين السحب المختلفة في الشحنات.
و{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} الإسراء 44. و{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} الأنبياء 79،
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} النور41.
 وتسبيح السموات والأرض وكل شيء، بطريقة لا نفهمها لأننا لا نفهم خارج لغتنا وثقافتنا، وإنما تسبيح هذه الكائنات هو أدائها لعملها وسيرها وفق السنة التي خلقها الله تعالى، وتأديتها وظيفتها، وهذا ما نلاحظه في آية النور أعلاه، حيث تشير الآية بوضوح أن السماء والأرض والطير يصلون ويسبحون، وكل صنف علم تسبيحه وصلاته (أي وظيفته العملية التكوينية) ويؤكده (والله عليم بما يفعلون)، أي أن صلاتهم وتسبيحهم فعل وعمل (يفعلون) وليس مجرد لفظ على غرار ما يفعله الإنسان العادي، كما أن تسخير الجبال مع داود الذي عبر عنه بالتسبيح، هو أن الجبال أخرجت كنوزها من المعادن التي استفادت منها المملكة، وهكذا فكل شيء يعبد ويسبح طوعاً أو كرهاً، بمعنى أن يسير وفق التخطيط الإلهي والسنة التاريخية، حتى من كان في الجانب الآخر (الجانب المخرب حسب نظرنا كالكوارث وعموم الشر) فهو يحقق أهداف السماء بشكل وآخر.
{وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ{19} يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ{20} الأنبياء،
{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} فصلت 38. وبما أن من في السموات والأرض يسبحون ليل نهار لا يفترون ولا يسأمون، وهو ما لا يمكن أن نفهمه سوى بأدائها لوظيفتها وقوانينها، التي لا زلنا في مرحلة الطفولة لكي نستوعب حقيقة القوانين التي تتحكم بالعالم، حيث تفاجأنا هذه الكائنات يومياً بما لم نستعد له أو نتوقعه.
ومن هنا لا بد أن نفهم الإشارات القرآنية التي أكَّدها علماء الآثار والجيولوجيا، فعندما يقول القرآن : {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} فصلت 11، نستفيد هنا عدة معاني منها :
ــ أن معنى (فقال لها وللأرض) و (قالتا)، ليس القول اللفظي جزماً فهما كائنان لا يمتلكان صوتاً كما نمتلكه، ولكن بما أن القرآن خطاب مخصص للبشر، فلا بد أن يكون وفق ما يفهم في لغته، بالتالي يكون القول بمعنى الحركة التكوينية في لحظة معينة، ومنه الحوار الذي دار بين الله تعالى وبين الملائكة حول آدم، وبينه جل وعلا وبين إبليس، وكذلك بينه وبين آدم وحواء، حيث نلاحظ مفردة (قال) سواء للذات الإلهية أو للآخر، وهذا يجعل معنى تسبيح السماء والارض وباقي الكائنات مفهوماً إلى درجة طيبة. وهو ما سنأتي على تفصيله المثير في معرض الحديث عن بداية استخلاف آدم في الأرض، وقصة سجود الملائكة وابليس وما إليها.
نعود الى أصل المطلب الذي هو الاختلاف في الروايات عن أعداد الآدميين وأزمانهم، فقد سمعنا في بعض الروايات آنفاً أن تاريخ الحياة على الأرض يمتد الى مليار عام، وآخر الى مليون آدم، الذي نعطيه متوسط 25 مليون سنة أو أكثر بحساب أن كل جيل إنساني يمتد 25 سنة كما في حساب علم النساب، بينما نجد هناك (ثلاثين آدم ثلاثين ألف سنة من آدم إلى آدم ألف سنة)، ورواية ابن عربي التي تحدثنا عن (مائة ألف آدم).
فالمليار كما نوهت سابقاً تحديد لبداية نشوء الحياة بشكلها البدائي، وهذا واضح من النص الذي لا يحدثنا عن آدميين في أول ذلك العهد، بل عن مياه ونباتات وحشية، وبعدها حيوانات بدائية عبر عنها بـ(السلاحف)، وهو تشخيص مهم حيث يؤكد العلماء أن السلاحف من أقدم الحيوانات التي استطاعت الصمود بوجه التطور وأن بعضها يعيش أكثر من 400 عام، وينضم إليه في تطوره البطيء جملة الزواحف، أما المليون آدم، فهم آباء الأجيال وكل آدم يمثل حلقة متقدمة على من قبله، وبهذا قد نحصل هنا على عشرات الملايين من الأعوام.
أما رواية مائة ألف آدم فهم الأجيال المتأخرة عن تلك التواريخ السحيقة والتي بدأ الإنسان القديم يتمايز بشكل ملحوظ عن عالم الحيوان البدائي، أما الثلاثين آدم، والذين أعطى لهم النص مدة ألف عام لكل واحد فهم الآباء المتأخرون والمباشرون للإنسان العاقل، وكل آدم منهم يمثل انتقالة في التطور العقلي، بعد أن أخذت ملامحهم الجسدية تتقارب أكثر إلى الإنسان الحالي، ونلاحظ أن هؤلاء لا بد أن انتشروا في الأرض منذ القدم بحثاً عن الطعام والماء، وهذه الهجرات المتنوعة هي التي شكلت البشر على كافة الأرض، وبمرور الزمن تأقلم كل صنف مع بيئته الجديدة وأثرت على شكله ولونه ولغته وأسلوب حياته، ولكن الإنسان الذي صمد في الشرق الأدنى فهو الذي يمثل الإنسان الذي صنع الحضارة، والذي انتخب واصطفي على باقي البشر الذين بقوا على مستوياتهم البعيدة عن التحضر، ومنهم الإنسان الأوربي والأمريكي والاسترالي والأفريقي وغيرهم، ولاحقاً التحق معظم هؤلاء بركب الإنسان الشرقي المتمدن الذي استحق عن جدارة لقب سيد البشر كما في الرواية :
((عن كتاب نفحات الأزهار عن علي ابن أبي طالب عليه السلام قال : سمعت حبيبي رسول الله صلىالله عليه وآله وسلم  يقول : هبط علي جبرئيل فقال : يا محمد، إن لكل شيء سيداً فسيد البشر آدم، وسيد ولد آدم أنت)). والسيرة الحلبية 1 : 152. البحار 61 : 30. ومجمع البيان 2 : 157. وتفسير النسفي 1 : 124. وتفسير الرازي 7 : 3. وجملة من المصادر.
فعندما نقرأ (سيد ولد آدم أنت) تعني بالضرورة وجود ولد آدم في عرض وجود النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن الضروري أيضاً أن كون (آدم سيد البشر) وجود بشر آخرين في عرض وجوده. ولكنه سيدهم بمعنى أفضلهم وعياً وهو حجة عليهم بمقتضى الانتخاب والاصطفاء.
أما موطن الإنسان ما قبل آدم فمن المرجح أنه الجزيرة العربية، وهو موطن ما قبل الإصطفاء، ولا بد أن نعرف لمحة عن الجزيرة العربية قبل وبعد فترة آدم لكي تكون نتائجه قريبة من الواقع العلمي والآثاري، كما ذكر العلامة الأستاذ طه باقر :
((كانت أحوال الجزيرة في الدهور الماضية تختلف اختلافا كلياً من حيث وفرة المياه والخصب عما هي عليه الآن. ولما كان لتلك الأحوال الماضية وتغيرها تأثير عظيم في العلاقات بين الجزيرة وبين الأقطار المجاورة من الشرق الأدنى، وكانت ذات صلة بنشوء الحضارات الأصلية في أنحاء الشرق الأدنى وبهجرات الأقوام كما مر بكم في تاريخ العراق، فيحسن بنا أن نذكر شيئاً موجزاً عما وجده البحث الحديث بالنسبة الى أحوال الجزيرة الماضية وما طرأ على تلك الأحوال من تغييرات وتقلبات أساسية. فقد أجمع الباحثون على أن الجزيرة كانت خصبة كثيرة المياه والأمطار في العصر الجيولوجي المسمى “البلايستوسين” وكانت كذلك حتى العصر الحجري المتأخر تقريباً. وأنها كانت تختلف عن حالها الآن بل كانت من أخصب بقاع الأرض وأغناها، وقد وجد الباحثون، ومن بينهم “فيلبي” محاراً من نوع المياه العذبة وأدوات من الصوان في جزء الربع الخالي الذي مرَّ به. ويعتقد أن تاريخ هذه الآثار يرجع الى الأزمان التي كانت فيها الجزيرة تتمتع بالخصب والمياه الدائمة في عصور ما قبل التاريخ البعيدة، في العصور الحجرية القديمة. وقد وجد فيلبي في الربع الخالي بقايا بحر واسع، وهو السهل المنخفض المسمى الآن “أبو بحر”. ويشبِّه بعضهم مناخ الجزيرة في الدهور الجيولوجية السابقة ولا سيما في دهر “البلايستوسين” بمناخ الهند الآن بالنسبة الى كثرة المياه والرطوبة. وذكر السياح المحدثون جملة من قيعان الأنهار اليابسة في الجزء الجنوبي من الجزيرة، وتدل بقايا الحيوانات التي وجدت هناك على أن أصلها أفريقي وتشير الى مناخ رطب يشبه مناخ أفريقية الحار في زمن قديم جداً. ويصادف هذا الزمن المشار إليه آخر عصر جليدي في أوربة لعله قبل 20,000 سنة عندما كانت أوربة وأمريكة الشمالية تغطيها الثلوج وغير مأهولة بالإنسان. فعند ذاك كانت الجزيرة تتمتع بالعصور الممطرة Pluvial Periods وتزدهر فيها الحياة)). طه باقر، مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة 2 : 190 ــ 191.
ويقول في موضع آخر :
((وكان البحر الجيولوجي المسمى “تيثس” Tethys لا يزال يغطي أرض العراق في أواخر الدهر الجيولوجي الأول Primary في دوره الأخير المسمى “برمي” Permian ولكنه أخذ بالانحسار منذ قبل 60 مليون عام، حيث كانت شبه الجزيرة العربية وبلاد الأناضول ظاهرتين فوق سطح ذلك البحر)).
وقبل أن نتحدث عن بداية نشوء الحضارة حسب النص الديني نلاحظ أن ما يذكره علماء الجيولوجيا وهو مؤكد، أن الماء كان يغطي سطح الأرض برمته، وهذا ما تؤكده النصوص الدينية إضافة إلى نصوص بلاد الرافدين، ومنه نفهم معنى قوله تعالى  {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }هود7، أي أن سلطته جل وعلا كانت على الماء قبل أن ينحسر الماء فتخلق السماء والأرض، ومعنى السماء لا يصح أن نفهمه هنا بالفهم المتبادر أنها جهة العلو مطلقاً والتي توجد فيها الكواكب والنجوم، فمصطلح السماء عادة ما يرد في القرآن ويقصد منه جهة العلو الخاصة بالأرض والتي لها صلة مباشرة بالحياة على الأرض ومن دونها لا تصلح الأرض للحياة ومنه الغلاف الجوي أو طبقة الأوزون الذي يحمي الأرض من الحرارة والعواصف الكونية وغيرها، والهواء الذي لا يمكن للحياة الحيوانية والنباتية أن تستمر من دونه.
الخلاصة أن كل ما جاء عن العرش هو السلطة العليا لله تعالى وهو في تلك الفترة كان على الماء، الذي يؤكد القرآن أيضاً أن كل شيء حي خلق من الماء : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30، وقوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً }الفرقان54، ومن هاتين الآيتين نفهم أن كل شيء حي على الأرض خلق من الماء أي كل الكائنات الحي تعود لأصل واحد، وهذه نقطة قوة أخرى لنظرية داروين.
أما ما سبق ان سمعناه أن أيام البحر المحيط بالأرض كانت الجزيرة العربية وبلاد الأناضول ظاهرتين على سطحه، وهذا يتفق بشكل عجيب من أن بداية الأرض حسب المفهوم الديني بدأت من الجزيرة، أي بداية التاريخ الديني في العالم، وهو ما سمي في النصوص بدحو الأرض : ((عن محمد بن عمران العجلي قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أي شيء كان موضع البيت حيث كان الماء في قول الله عز وجل : “وكان عرشه على الماء” قال : كان مهاة بيضاء يعني درة)). الكليني، الكافي 4 : 188.
((عن أبي عبد الله (عليه السلام) : قال : إن الله عز وجل دحى الأرض من تحت الكعبة….)). الكليني، الكافي 4 : 189.
((عن أبي حمزة الثمالي قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) في المسجد الحرام : لأي شئ سماه الله العتيق؟، فقال : إنه ليس من بيت وضعه الله على وجه الأرض إلا له رب سكان يسكنونه غير هذا البيت فإنه لا رب له إلا الله عز وجل وهو الحر، ثم قال : إن الله عز وجل خلقه قبل الأرض ثم خلق الأرض من بعده فدحاها من تحته)). الكليني 4 : 189.
((قال أبو جعفر (عليه السلام) : لما أراد الله عز وجل أن يخلق الأرض أمر الرياح [الأربع] فضربن متن الماء حتى صار موجاً، ثم أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت، ثم جعله جبلاً من زبد ثم دحا الأرض من تحته وهو قول الله عز وجل : “إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً” فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة، ثم مدت الأرض منها)). الصدوق، من لا يحضره الفقيه 2 : 241.
(( وفي حديث طويل عن أمير المؤمنين “عليه السلام” سأله أحدهم : فلم سميت مكة أم القرى؟، قال : لان الأرض دحيت من تحتها)). الصدوق، عيون أخبار الرضا 2 : 218.
وجاء في تفسير علي بن إبراهيم القمي ((وإنما سميت أم القرى لأنها أول بقعة خلقت في وجه الأرض)). القمي 1 : 210 و 2 : 268.
((شرح النهج للكيدري : ….. ثم بسط الأرض كلها من تحت الكعبة ولذلك تسمى مكة أم القرى لأنها أصل جميع الأرض)). المجلسي، بحار الأنوار 54 : 29.
((سئل أمير المؤمنين “عليه السلام” : لم سميت مكة؟، قال : لأن الله مَكَّ الأرض من تحتها أي دحاها)). المجلسي، البحار 54 : 64.
((سميت مكة أم القرى لأنها أصلها)). النووي، شرح مسلم 4 : 101.
أي أصل القرى (المدن)، فمنها خرج البشر الواعي الذي أقام الحضارات، وأولهم أسلاف آدم.
((أم الشئ ابتداؤه وأصله ومنه سميت مكة أم القرى لان الأرض دحيت من تحتها)). ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري 8 : 118.
((كما أن مكة سميت : أم القرى، لأنها أول الأرض وأصلها)). العيني، عمدة القاري 6 : 33.
وتفسير دحو الأرض بتهيئتها وصلاحها للسكنى يدل عليه قوله تعالى في سورة النازعات : {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا{30} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا{31}. إذ نلاحظ من هاتين الآيتين أن الآية الثانية نتيجة للأولى، فإن (دحاها) نتج عنه (أخرج منها ماءها ومرعاها).
أما تفسير كون عرشه جل وعلا على الماء :
((عن داود الرقي ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل (وكان عرشه على الماء) فقال : ما يقولون؟، قلت : يقولون : إن العرش كان على الماء والرب فوقه!، فقال : كذبوا، من زعم هذا فقد صير الله محمولاً، ووصفه بصفة المخلوق، ولزمه أن الشيء الذي يحمله أقوى منه!، قلت : بَيِّنْ لي، جُعلت فداك. فقال : إن الله حمل دينه وعلمه الماء قبل أن تكون أرض أو سماء، أو جن أو إنس، أو شمس أو قمر)). الكليني، الكافي 1 : 132 ــ 133، الصدوق، التوحيد 319.
ويوجد عدد مهم من الروايات في تفسير معنى العرش والإستواء لسنا في موضع استقصاءها هنا.
ذكرنا فيما سبق أن مؤسسي الحضارة سواء في العراق أو وادي النيل قدموا من الجزيرة منذ عصور ما قبل التاريخ، ولكن هذا لا يعني أن  كلا من القطرين كانا خاليين من السكان، ففي وادي النيل كان هناك سكان منذ القدم على ضفاف النيل، ويرجح أنهم من قدموا من أفريقيا في زمن ما طلباً لخصوبة الأرض والمياه العذبة التي يوفرها النيل، وهؤلاء الأقوام يمكن تمييز أحفادهم من خلال البشرة السمراء الداكنة والشعر وملامح الوجه، والجزء الآخر الذي كون حضارة مصر هم أقوام نزحوا من الجزيرة وهم يتميزون بالبشرة البيضاء (الحمراء) كما تشهد بذلك آثار وادي النيل، ومن البعيد أن يكون هؤلاء من الأفارقة بسبب هذه البشرة أولاً، وللتشابه الكبير بين حضارة وادي النيل وحضارة الرافدين، من حيث التشابه في الكتابة (الهيرغلوفية) الصورية، وأما الاختلاف من حيث اللغة فهذا له عوامل أخرى، يستعرض الأستاذ طه باقر جملة هذه الموارد قائلاً :
((انتشر من الجزيرة منذ أزمان مختلفة أقوام على هيئة هجرات استوطنت في أطراف الجزيرة ومنها بوادي الشام والعراق الغربية وبوادي ما بين النهرين العليا مثل منطقة الخابور والباليخ والفرات الأعلى، ومنها كانت تتغلغل الى المناطق الأخصب مثل وادي الرافدين وسورية وفلسطين ولبنان وحتى وادي النيل حيث دخلت جماعات من الساميين منذ عصور ما قبل التاريخ في تركيب سكانه التاريخي)). طه باقر، مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة 1 : 66.
ويقول في موضع آخر : ((إن هجرة سامية مهمة قد دخلت مصر في الألف الرابع (قبل الميلاد) واختلطت بالسكان الأصليين، وتكوَّن من ذلك المصريون كما نعرفهم في التاريخ)). المصدر السابق 2 : 13.