أما الجبلة الأولين فقد جاء ذكرهم في مورد التذكير بأنهم زائلون كما خلقت وزالت الجبلة والخلق الأولين، بالتالي فهم أقدم بكثير من قوم نوح وآدم، إذ لا يصح على أن نقول عنهم (خلق أولين)، وإنما هم مذكورون على نحو (الأمم والشعوب والقبائل) مع فارق أن الأمم من بني آدم الولاءات والانتماءات وليس الانتساب القبلي والأسري الذي عبر عنه القرآن بالقبائل والشعوب والآل (آل ابراهيم وآل عمران) والأمم تصدق على طوائف الإنس والجن بصريح القرآن.
وقد يقال هنا أن شعيب يعني بخطابه عن (الجبلة الأولين) أقوام سابقة مثل قوم نوح وعاد وثمود، وهذا يرد عليه بآية أخرى يخاطب فيها شعيب قومه ويذكرهم :
{وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ }هود89.
فهو عندما يريد أن يعظهم بما حصل للأقوام السابقة يذكرهم بأعيانهم كما في قوم نوح وغيرهم، أما عندما يريد تذكيرهم بعظمة الله وأنه في غنى عنهم يذكرهم بالخليقة التي سبقت وجودهم، وقد يقال أن شعيب وقومه لم يكونوا يعلمون شيئاً عن تلك الخليقة التي سبقت آدم لأنها عاشت وبادت في عصر سبق الوعي الإنساني ولم يتركوا أي أثر يدل عليهم ولو لم تكتشف آثارهم وبقايا أجسادهم لما كنا سنعرف عنهم شيئاً. وجوابه : إن القرآن ليس بالضرورة يتحدث بنفس الألفاظ التي حصلت في زمن الحدث، بل قد لا تكون هناك ألفاظ أساساً في بعض الموارد كما في محادثة الملائكة أو إبليس أو آدم مع ربهم (جل وعلا)، وهذا ما سنأتي عليه في محله.
وإنما يتحدث القرآن على ضوء اللغة المتوفرة واللغة (أية لغة) عاجزة عن التعبير عن عالم المعنى تعبيراً وافياً، نظراً لضيق اللغة،بل إن اللغة عاجزة عن التعبير عن الشعور الإنساني وتختلف بين بيئة وأخرى في قدرتها على البيان حسب طاقتها، ولكنها تبقى ضيقة الحدود لأنها في أحسن أحوالها صناعة بشرية، ونجد أنفسنا في أحايين كثيرة نستعين بتعبير أجنبي لعدم وجود مرادف في لغتنا، بل نجد أحياناً مشكلة في ترجمة كلمة من الإنكليزية أو الفرنسية أو غيرهما إلى اللغة العربية،ولآ زالت مشكلة تفسير القرآن الى اللغات الأخرى قائمة إذ تفقد الكلمات روحها، وعادة ما يلجأ المترجمون الى التفسير المقارب بالمعنى وليس الحرفي كما هو البديهي، فلكل لغة روحها ولا يمكن لأي مترجم مهما بلغ من الدقة أن يستوعب غير لغته الأم، فليست الكلمات مجردة ومنفردة هي المقصد وإنما مجموع الكلمات التي تشكل جملة أو عبارة مفيدة تعطي معنى يفهم صاحب اللغة، لذلك يجد غير العربي مشكلة في فهم النصوص الإسلامية سواء في القرآن أو الحديث الشريف، فيلجأون الى القواعد العقلية ومن هنا برع غير العرب بالفلسفة وأصول الفقه، ولكنهم لم يستطيعوا مجاراة العربي في الفهم المتبادر الأولي للنص، أو المعنى العميق له، ومن هنا أجدني لا أستسيغ في كثير من الأحيان التفسير المعنوي أو الباطني للقرآن، لأنه يعبر بصراحة عن العجز في فهم المعنى المباشر للنص، كما أنه يضيع أبعاد الحدث التاريخية أو الجغرافية، ومن هذه النماذج قصة شجرة آدم وخروجه من الجنة التي سنفصلها في حلقة لاحقة، إذ ذهب المفسرون مذاهب شتى في محاولة فهم الشجرة أو جنة آدم، مما جعل القصة برمتها مغلقة الفهم على القراء، والحقيقة أن للقرآن سبعين بطناً، وهذا صحيح، ولكنه في نفس الوقت يتحدث عن واقعة معينة حصلت في وقت ما، فتكون مهمة المفسر أن يفسر لنا هذه الحادثة لنعرف وقتها وموقعها وأبطالها والصيغة الفعلية أو المقاربة لمعانيها، كما في قصة إبليس وحقيقته وغيره من الحقائق التي لا زلنا نراوح مكاننا ولم نتقدم خطوة واحدة لمعرفته.
ونعود الى (الجبلة الأولين)، ولنعرف أولاً المعنى اللغوي لها كما ذكر المفسرون من الفريقين :
((والجبلة الأولين ” قيل : أي وذوي الجبلة الأولين ، يعني من تقدمهم من الخلائق وفي التفسير الخلق الأولين)). المجلسي، بحار الأنوار 67 : 276.
((واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين ) قال الخلق الأولين)). تفسير القمي 2 : 123.
((ثم قال لهم ” واتقوا الذي خلقكم ” وأوجدكم بعد العدم ” والجبلة الأولين ” فالجبلة الخليقة التي طبع عليها الشئ – بكسر الجيم – وقيل أيضا بضمها ويسقطون الهاء أيضا فيخففون . ومنه قوله ” ولقد أضل منكم جبلا كثيراً ” وقال أبو ذؤيب : منايا يقربن الحتوف لأهلها جهارا * ويستمتعن بالانس الجبل ( 1 ) ومعناه اتقوا خليقة الأولين في عبادة غير الله والاشراك معه ، فهو عطف على ( الذي ) فيها ، ولا يجوز أن يكون منصوبا ب ” خلقكم ” لان الله تعالى لم يخلق كفرهم ، ولا ضلالهم ، وإن جعلته منصوبا ب ” خلقكم ” على أن يكون المعنى اتقوا الله الذي خلقكم وخلق الخلق الأولين ، كان جائزا ، وأخلصوا العبادة لله)). الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 8 : 59.
((“واتقوا الذي خلقكم” أي : أوجدكم بعد العدم ( والجبلة ) أي : الخليقة ( الأولين ) يعني : وخلق الأمم المتقدمين)). الطبرسي، مجمع البيان 7 : 350.
وتفسير الشيخ الطبرسي هذا لايتم أيضاً بدلالة تفسيره لـ(خلقكم) أي أوجدكم من العدم، فيكون التفسير المناسب (خلقكم كما خلق من قبلكم الجبلة الأولين). فالخطاب (خلقكم) أي “يا بني آدم”، أو “أيها الناس” كما في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13.
كما في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }البقرة21، فالمخاطب هنا وهناك هم الناس، أما الذين من قبلهم فهم كما قلنا سابقاً لا يصطلح عليهم في النص الإسلامي (ناس، أناس، أنس، بشر، إنسان، بنو آدم)، لأسباب سنأتي عليها.
كما أن هناك آية غاية في الأهمية لها صلة وثيقة بـ(بالجبلة الأولين) وهي : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }ق15. وأعتقد أنها من الوضوح بحيث تشير الى خلق آخر سابق على هذا الجيل الذي وربما أجيال عديدة، فإن لفظ الخلق يشمل الإنسان وغيره من موجودات هذا الكون قال تعالى :
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }الأعراف54. فالخلق هنا شملت الليل والنهار والشمس والقمر والسماء والأرض، ومن المؤكد أنها تشمل الحيوانات أيضاً.
وهنا يمكننا أن نقول بإطمئنان أن (الجبلة الأولى) هي نفسها (الخلق الأول)، ولكي نميز الخلق البشري عن غيره نرجع الى الخطاب القرآني حيث نجد أنه عندما يتحدث عن الأمم السابقة يصفها بـ (الأولون، الأولين) ولم يعط هذا الوصف لغير العاقل (كما يقول النحو العربي)، فنصل هنا الى نتيجة أن : الجبلة الأولين سابقين على آدم وأنهم الخلق الأول، كما في الآيتين.
((تفسير مجاهد 2 : 465، عن مجاهد في قوله والجبلة الأولين قال يعني خليقة الأولين)).
((الطبري، جامع البيان 19 : 132، الجبلة الأولين يعني بالجبلة : الخلق الأولين. ثم ذكر روايات تشير الى هذا المعنى : حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : قوله واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين يقول : خلق الأولين.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : والجبلة الأولين قال : الخليقة. – حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله والجبلة الأولين قال : الخلق الأولين ، الجبلة : الخلق)).
((تفسير ابن أبي حاتم الرازي 9 : 2813، أخبرنا أبو يزيد القراطيسي فيما كتب إلي ، أنبأ اصبغ بن الفرج قال : سمعت عبد الرحمن بن زيد في قوله : والجبلة الأولين قال : الخلق الأول والجبلة الخلق)).
((النحاس، معاني القرآن 5 : 102، وقوله جل وعز * ( واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين ) * [ آية 184 ] . روى ابن أبي نجيح عن مجاهد * ( الجبلة ) * : الخليقة . قال أبو جعفر : يقال : جبل فلان على كذا أي خلق)).
((تفسير السمرقندي 2 : 566، ( واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين ) * يعني الخليقة الأولين)).
((تفسير الواحدي 2 : 796، ( والجبلة الأولين ) * أي الخليقة السابقين)).
((تفسير السمعاني 4 : 65، ( واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين ) أي : خلقكم وخلق الجبلة الأولين ، والجبلة : الخليقة)).
((ابن الجوزي، زاد المسير 6 : 50، قوله تعالى : ( واتقوا الذي خلقكم والجبلة ) أي : وخلق الجبلة)).
((تفسير البيضاوي 4 : 252، ( واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين ) * وذوي الجبلة الأولين يعني من تقدمهم من الخلائق)).
((السيوطي، الدر المنثور 5 : 93، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله والجبلة الأولين قال الخلق الأولين. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد والجبلة الأولين قال الخليقة)).
((عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان 597، ( واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين ) * أي : الخليقة الأولين)).
الخلاصة : أن الجبلة هم البشر الذين سبقوا الإنسان العاقل، الذي استحق أن يكون خليفة الله في الأرض، بمعنى أنه أُعطي صلاحية إعمار الأرض بما وهبه الله من العقل، ولا يعني هذا أن الذين سبقوا آدم كانوا كالبهائم تماماً وإنما لم يبلغوا بعد الإستعداد لبناء الحضارة البشرية أو المستوى الفعلي لتحمل مسئولية حمل الرسالة التي عبر عنها القرآن بـ”الأمانة”.
وسيأتي تفصيل آخر في حلقة لاحقة بإذن الله تعالى.