لقد خطت أصابع دارون نظريته المشهورة في التطور والنشوء والارتقاء لتبدأ معها رحلة جديدة في فهم (الخلق) ، ولتترتب عليها آثار معرفية جديدة ، ولتؤثر في الفكر الفلسفي الأوربي (خصوصاً) ، تاركة ورائها كمّـاً هائلاً من المواقف بين (التأييد والرفض) ، وبين (الكفر والتكفير) ، وبين الإلحاد واتهام دارون بالإلحاد بين أساطين وأباطرة الدين والتدين ، وخصوصاً بين (المسلمين) من أتباع الشريعة المحمدية , وبقية المسلمين من أتباع الرسالات والشرائع الأخرى كاليهودية والمسيحية والصابئية ، وكذلك غير المسلمين من أتباع الديانات والشرائع غير السماوية .
لقد فهم المتدينون أن نظرية التطور (الداروينية) بمثابة (سُبّـة) على معتقداتهم وموروثاتهم التي تؤمن بأفضلية الانسان على المخلوقات ، وفلسفتهم في فهم الكون ، بل اعتبروها خدش و(إهانة) لثوابت الدين ، حتى أصبحت مقولة إن (الانسان أصله قرد) عبارة (تهكم) يتبادلها البعض في الرد على أعدائهم أو من يريدون التنكيل أو السخرية بهم .
والحقيقة إن المسلمين من أتباع الشرائع السماوية (الأقدم) كالمسيحية واليهودية والصابئية ، لم يلتفتوا إلى حقيقة التطور في الكائنات الحية ، ربما لأنهم كانوا الأبعد عن مفاتيح (التطور) في العقل (البشري) ، ولم تخطر ببالهم (فكرة هجينة) كهذه ، وهذا – بالطبع – لا يجيز لهم رفض نظرية التطور لمجرد الارتكاز على مفاهيم قديمة متوارثة وراسخة في الفكر والفلسفة ذات التفسيرات الدينية ، كما حدث في ردة فعل (الكنيسة) على آراء (غاليلو) ، كـأنموذج هو الأقرب إلينا تأريخياً .
كان حرياً بأتباع الشريعة المحمدية الأقدمين والمعاصرين أن يكونوا هم الأولى والأحرى بفهم هذه النظرية ، إذا لم نقل أنهم الأولى والأحرى بأن يضعوا أسسها قبل داروين بعقود طويلة ، على الأقل لأن القرآن الكريم قد سبق دارون إلى هذه النظرية ، وأدرج بين طياته من الآيات (المحكمات) ما يمكن اعتبارها (مصاديق) لنظرية التطور والنشوء والاتقاء ، ولكن ، ربما بسبب انعدام (البحث) العلمي والمختبري آنذاك ، أو ربما لعدم التفات (المفسرين) إلى هذه الآيات ، وربما بسبب (الخوف) من (مخالفة المشهور) ، أو لربما يعود السبب إلى أن أغلب المفسرين لم ينتبهوا لــ (عدم وجود الترادف) في لغة القرآن الكريم ، لذلك ، لم يفرقوا بين مفردة (الانسان) و (البشر) ، مما أوقعهم في (غيبوبة) الفهم ، و (عدم الانتباه) إلى مسألة هي الأكثر قرباً لتفسير ما جاء به دارون من فكرة (باتت نظرية) عالمية ، وكان المفترض بهم أن يكونوا السباقين إليها قبل (دارون) بألف سنة أو تزيد .
إن أول الدلائل على التطور والنشوء هي الآية (33) من سورة الأنبياء المباركة :- (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) .
من الواضح جداً أن العبارات الأولى من الآية والتي مفادها (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) تشير إشارة واضحة إلى نظرية (الانفجار العظيم) ، والتي تمثل بداية نشوء الكون بصورته المتطورة والقابلة للتطور هذه ، ولكن الملفت أن هذه الإشارة جائت متبوعة بعبارة (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) ، كإشارة واضحة إلى بداية نشوء الحياة (على الأرض وغير الأرض) ، والتي ذهب البعض إلى تفسيرها – حسب مستوى الفهم آنذاك – على اعتبارها (بديهية) ـ وذلك لأن (الماء هو مصدر الحياة) وأن الأحياء لا يمكنها البقاء والاستمرار إلاّ بوجود هذه المادة في الطبيعة ، غير منتبهين إلى الفرق بين حرف (الميم) و (الباء) في الدلالة ، لأن الميم هنا تعني (المصدر الأول) ، فــ (من الماء) جعل الله كل الأحياء ، وهذا يعني أن (الحياة) قد بدأت فعلاً من المسطحات المائية الأولى ، قبل أن تأتي نظرية التطور لتخبرنا أن الحياة قد بدأت من (ضحاضح الماء) .
ولعل الآية (189) من سورة (الأعراف) المباركة هي من أوضح الآيات على التطور ، حيث نصت على ما يلي :- (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) ، والتي ذهب المفسرون إلى إزاحة دلالتها إلى خلق (آدم) و (حواء) ، معتبرين أن آدم كان هو أول الخلق ، وهو (النفس الواحدة) الأولى التي خلق الله منها زوجها (حواء) ، والتي أوقعت بعضهم في أخطاء أوصلتهم لجملة من الاعتقادات ، أولها إن (آدم) هو أول الخلق ، مما أضطرهم إلى القول إن حواء خلقت من (ضلع آدم) ثانياً ، ودفع بهم إلى رفض نظرية التطور رفضاً لا رجعة فيه .
كل هذا كان قبل – وبعد – أن اكتشف (علم الأحياء) وجود (البروتوزوا) أو (وحيدة الخلية) ، التي كانت أول الكائنات الحية على وجه الأرض ، والتي ما زالت (الأميبا) وغيرها من الأحياء الدقيقة من الشواهد على وجود (أسلافها) الذين عاشوا منذ ملايين السنين ، والذين بدأ بعضهم بـ (الانشطار الأول) الذي أنتج (الميتازوا) لتصبح (متعددة الخلايا والوظائف) ، ثم لتتطور لتصبح كائنات أكبر وأكثر تعقيداً ، وهذا أدل على قدرة الله سبحانه وتعالى ، وهذا ما يلفت النظر في الآية (15) من سورة (ق) والتي نصها :- (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) .
لقد كانت البروتوزوا (وحيدة الخلية) تمثل (النفس الواحدة) ، والتي كان انشطارها وتطورها وتحولها إلى (ميتازوا) أمراً ذاتياً ، دون الحاجة إلى رديف أو (زوج) من خلية أخرى ، ولكن سلم التطور (وعندنا هو الله) قد أحدث (طفرة) في البروتوزوا ، وجعل لها رديفاً من (خارجها) ، لــ (يسكن إليها) ، وليشاركها مراحل (التطور) ، إلغاءً لمبدأ (الوحدانية) في الكائنات ، وكما يحدث في التلاقح بين (البويضة) و (الحيمن) لتتحول البويضة – بعد (الانشطار) إلى الطور (التوتي) الذي يأخذ بزمام الأمور لإنتاج (خلق) جديد .
إن التطور الذي بدأ منذ (ملايين السنين) قد أنتج (الإنسان) الأول ، والذي أثبتت (المختبرات) تطوره من إنسان (نياندرتال) إلى الانسان (الحديث) الذي بدأ بالانتصاب والوقوف على (اثنتين) ، والذي (تعلم البيان) في مراحلة المتطورة (الأخيرة) ، وهو الذي نشأ من خلال (طفرة) وراثية من بعض أنواع (القرود) التي نشأت بدورها من طفرة وراثية سابقة من كائن أقل رقياً .
كان البعض – وما زال – يتصور بأن (الطفرة الوراثية) تحدث في كل (النوع) ، كأن تتحول (جميع) القرود إلى (إنسان) ، وهذا خطأ ، فإنما تحدث الطفرة في مجموعة أفراد من فصيلة أو نوع واحد ، يمتلك هؤلاء الأفراد القابلية على التطور ، وتوارثها أجيالهم لتصل إلى حد معين كان نتاجه الوصول إلى (الانسان الحديث) .
إن عدم انتباه العلماء المسلمين الأوائل من أتباع الشريعة المحمدية للتطور ، وعدم إشارتهم أو بحثهم فيه ، قد أوقع العلماء المتأخرين في مغبة رفض نظرية (دارون) ، كما وقع دارون نفسه في مغبة اعتبار أن كل الكائنات الحية – ومنها نحن – إنما هي نتاج التطور ، ، ما أعجزه عن استيعاب فكرة خلق (آدم) ككائن حي مستقل جاء دون (تطور) ، وبشكل عرضي في الوجود .
وإن فكرة أن الانسان جاء من أسلافه القرود قد قابلها (أتباع الشريعة المحمدية) بالرفض القاطع ، معتقدين (العكس) تماماً ، ومتصورين إن (الانسان هو أصل القرود) ، بما يمتلكون من (عندية وقبلية) متأتية من تعبدهم الشمولي بالآية (65) من سورة البقرة ، والتي مفادها :- (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)
هذه الآية كانت الموجه المهم لرفض نظرية التطور باعتبارها قد أتت بــ (نقيض) واضح لدلالة قرآنية واضحة ، غير منتبهين إلى التفريق بين معنى (الانسان) و (البشر) من جهة ، وإلى أن الذين تحولوا إلى قردة هم مجموعة من (البشر) ربما يمثلون أقلية في عائلة القرود ، ويمكن من خلال هذا التحول او (المسخ) أن نفهم بأنه دليل على مصداقية النظرية الداروينية ، لعدم (استحقاق) أفراد هذه المجموعة – التي مُسخت – لأن يكونوا ضمن (العائلة البشرية) التي يفترض بها أن تكون نسخة (متطورة) عن (الانسان) ، من جميع النواحي .
إن (الانسان) الذي أُنتج من خلال (التطور والارتقاء) ، كان موجوداً (على الأرض) قبل خلق (آدم الأخير) بعصور طويلة ، على اعتبار أن (آدم) المذكور في كتاب الله سبحانه هو ليس واحداً ، وإنما هم (ثلاثة) أوادم ، وهذا ما ذهب إليه المرحوم (عالم سبيط النيلي) ، وهو المرجح .
لقد كان هذا الانسان يمثل مجموعات (انسانية) تشبه العصابات أو (المليشيات) بتعبيرنا المعاصر ، ولم يكن لها (قانون) يحكمها غير قانون (الصراع من أجل البقاء) ، ولكنها كانت (عاقلة) تستمد مسوغات جرائمها وفسادها من حب (البقاء) – وليس من مسوغات روائية كما يفعل الدواعش اليوم – ، وكانت تمتلك القدرة على (التفاهم) بلغة وإشارات وإن كانت (بدائية ومشخصاتية) ولكنها كانت كافية للتعبير و (البيان) في (البدايات) المتقدمة ، وإن أول اختلاط بين (الانسان) و (البشر) كان عندما تزوج (ابن آدم) البشري ، من (إناث) الانسان الموجود على الأرض ، ولم يتزوج من (أخته) كما ذهب البعض .
ولذلك ، وبحكم قانون (البقاء) ، وعدم وجود (التجريد) والقيم والأخلاق والنواهي ، فقد كان من الطبيعي للإنسان القديم أن يمارس (الفساد وسفك الدماء) لكي يأثر لنفسه (بالغذاء و الإناث) في مجتمع كانت فيه (الأنثى) هي مصدر (الخصب والعطاء) والديمومة ، وهذا ما أشار إليه (المراقبون) من الملائكة حين (اعترضوا) باستفهام يمكن أن يكون (استنكارياً) على خلق (آدم) كما ورد في الآية (30) من سورة البقرة ، والتي تشير بوضوح إلى سبب هذا الاعتراض بما نصه :- (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) وذلك ناتج عن مشاهدة الملائكة للجرائم التي يقترفها (سكان الأرض) ، ما ذهب بتصورهم إلى أن (آدم) سيكون جزءً من هذه المنظومة (الفاسدة) .
إن أحد العلل المهمة في إمكانية التطور والابداع لدى (البشر) تأتي من اتساع (قاموسية) الفرد ، وامتلاكه لناصية اللغة ، ومن هنا نفهم المغزى في تعليم الله (الأسماء كلها) لآدم ، فإنما جاء (آدم) ليشكل النسخة (الأكثر تطوراً) في الوعي والتجريد ، وأكثر اتساعاً في (اللغة) من (الانسان) و (الملائكة) ، وهذا ما نجده في الآية (31) من سورة المباركة (البقرة) في النص التالي :- (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) ، لتكون أولى الدلائل على أفضلية (آدم) على الانسان والملائكة ، كونه (بشراً) .
والحقيقة إن الملائكة (لم ينتبهوا) جيداً إلى معاني المفردات في الخطاب (الإلهي) من حيث (الدلالة) ، وكان الأولى بهم أن ينتبهوا لمفردة (خليفة) ، والتي تدل على ضرورة أن يحمل المستخلف (بفتح اللام) صفات ومهام المستخلف (بكسر اللام) من جهة ، ومن جهة أخرى لربما لأن الملائكة لم يكونوا من (فقهاء اللغة) ، ولم يتعلموا (الأسماء كلها) كما هو الحال مع (آدم) ، ولقلة ضلوعهم في (التجريد) ، ولانسياقهم وراء (الترادف) ، فقد جاء اعتراضهم على خلق (آدم) من منطلق فهمهم (المحدود) لمعاني المفردات ، ويكونوا بذلك قد (سبقوا المفسرين القدامى) إلى عدم الانتباه لحقيقة امتناع (الترادف) في اللغة ، فلم ينتبهوا إلى مفردة (بشـر) التي تختلف عن مفردة (إنسان) ، والتي جاءت في خطاب الله سبحانه وتعالى لهم ، حيث قال لهم (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ) كما في الآية (71) من سورة ص) ، والتي تدل دلالة واضحة على أمرين (مهمين) ، أولهما أن هذا المخلوق من (البشر) وليس من (الانسان) ، وثانياً ، إن هذا الكائن مخلوق من (طين) وليس ناتجاً عن النشوء والتطور كما هو حال الانسان الموجود في الأرض ، والذي عاصروا تطوره ونشوؤه من (ضحاضح الماء) .
إن الأدلة القرآنية (المسكوت عنها) أو غير المنتبه لها والتي تدل على أن نظرية دارون مسبوقة في القرآن ، وهذا السبق أكثر تفسيراً ورداً على إشكالات الخلق والوجود .