آثار ظاهرة وعّاظ السلاطين على الدين والمجتمع

آثار ظاهرة وعّاظ السلاطين على الدين والمجتمع

إنّ لظاهرة “وعّاظ السلاطين” آثارًا بالغة العمق والخطورة، لا تقتصر على الشأن الديني وحده، بل تمتد إلى بنية الوعي الجمعي، والسيكولوجيا المجتمعية، والشرعية السياسية، ناهيك عن أثرها على مشروع الإصلاح الديني ومكانة المؤسسة الدينية ذاتها. ويمكن إجمال أبرز هذه الآثار فيما يلي:

1. تحويل الدين إلى أداة تبرير أهم الأضرار الناتجة عن هذه الظاهرة هو تحويل الدين من رسالة تحرير روحي وأخلاقي إلى خطاب شرعنة للطغيان والظلم. لم يعد الدين في هذه الحالة قوة أخلاقية ناقدة، بل أصبح مؤسسة رمزية للحراسة، تُمنح منابرها لتمجيد الحاكم وتفسير قراراته وفق تأويلات انتقائية تُقصي البعد القيمي والأخلاقي للنصوص. وفي ذلك ينهار جوهر الدين بوصفه “كلمة الله في وجه الجائر”، كما يختزل النص في إرادة السلطة لا في مقاصد الحق والعدل.

2. إضعاف الثقة بالدين ورجاله حين يرى العامة أن المؤسسة الدينية تصطف دائمًا إلى جانب الحاكم، وتدافع عن تجاوزاته، وتبرر حروبه وفساده، يفقد رجل الدين مكانته بوصفه ضميرًا أخلاقيًا أو مرجعًا نزيهًا. تبدأ هنا موجة النفور والشك في صدقية الخطاب الديني، وهو ما يؤدي غالبًا إلى الانفصال التدريجي بين الجمهور والدين، ليس كعقيدة روحية بل كمؤسسة مجتمعية، وقد يقود ذلك في بعض البيئات إلى الإلحاد أو العدمية أو الارتياب الجذري من كل ما هو ديني.

3. إفشال مشاريع الإصلاح يسهم وعاظ السلاطين في إفشال أي نهوض إصلاحي حقيقي، إذ سرعان ما يتحالفون مع السلطة ضد أي صوت نقدي، ويصدرون الفتاوى التي تُحرم التظاهر، وتُجرم العصيان، وتُدين المطالبات الشعبية باسم “درء الفتنة” أو “وحدة الأمة”، مما يعيق الإصلاح السياسي والاجتماعي، ويخنق الأصوات الحرة التي تنشد التغيير السلمي. وهكذا تتحول المؤسسة الدينية، في كثير من التجارب، إلى جزء من منظومة القمع لا من حركية التحرر.

4. خلق وعي ديني زائف لا يقتصر الأثر على مستوى السياسة، بل يمتد إلى بنية التفكير الديني نفسها. يُعاد تشكيل العقل الديني بما يتلاءم مع بنية السلطة، حيث تُنتج فتاوى وفق معايير الولاء لا الاجتهاد، ويُعاد تفسير مفاهيم الطاعة، والشورى، والفتنة، والجهاد، بما يخدم نظام الحكم القائم. وبهذا، تتشكل نسخة زائفة من الدين، تُربى الأجيال عليها، وتُستنسخ في المنابر التعليمية والإعلامية، ليُعاد إنتاج الاستبداد عبر الدين لا ضده.

5. تثبيت السيكولوجيا الاستسلامية على المستوى النفسي، تساهم هذه الظاهرة في بناء شخصية جماعية مستسلمة، ترى في الحاكم ظلّ الله على الأرض، وفي الطاعة المطلقة فضيلة، وفي الاعتراض خروجًا عن الملة أو سفكًا للدماء. وهو ما يعزز شعور العجز، ويُميت روح المقاومة، ويُطبع الوعي على القبول بالعنف والطغيان كأقدار لا كاختيارات بشرية يمكن نقدها أو تغييرها.

6. التواطؤ مع العنف في بعض السياقات، لا يكتفي وعاظ السلاطين بالتبرير، بل يُضفون القداسة على ممارسات العنف السلطوي، فيُشرعن القمع تحت غطاء الدين، وتُمنح الحرب صفة “الفتح”، ويُصور المعارضون كـ”خوارج العصر”، في حين يُكافأ القاتل بوصفه “مجاهدًا”، ويُمنح المجرم غفرانًا فوريًا باسم المذهب أو الوطن أو الدفاع عن العقيدة.

باختصار، إنّ ظاهرة “وعاظ السلاطين” لا تفسد السياسة فحسب، بل تفسد الدين ذاته، وتُهدر قيمة الإنسان، وتُكرس بنية طاعة عمياء تعطل العقل وتُحاصر الضمير. وهي، في المحصلة، واحدة من أبرز أسباب تأخر المجتمعات الإسلامية وتكلس نظمها، وفشلها في بناء دولة عادلة وحديثة، تليق بقيم الدين وتطلعات الإنسان في آنٍ واحد.

أحدث المقالات

أحدث المقالات