19 ديسمبر، 2024 1:05 ص

أنتهت الحرب بين العراق وأيران في شهر آب ، وضربت أمريكا اليابان بالقنبلة الذرية في شهر آب ، وجاءوا بأول ضحايا الحرب في قريتنا في آب ، وفي آب يصبح الصيف أكثر مشقة حين يصير مجرد مقهى ومهفة يحركُ فيها ابي خواطر ايامه ويسألني متى يصبح راتبك دسما لترسلني الى الحج ويخبرني  أن جده مات في آب في قافلة حجيج قتلها الحر في صحراء عرعر بينما كانوا يذهبون الى مكة حاجين بقوافل الجِمال ، ويخبرنا أهل المدينة الهندية حيدر آباد أنه بسبب لهيب آب يتعانق مشايخها وكهنتها البوذيون ويطيرون بأردية بيض وبرتقالية الى السماء .

أما آب الأهوار فلا نعيشه نحن المعلمون لأننا نكون في عطلة الصيف ولكن عندما نباشر في الدوام في مطلع كل ايلول نسمع حكايات آب وأغلبها أن جنود القرية يجيئون فيه أما جرحى أو شهداء.

لأجل هذا أيلول بالنسبة ليَّ هو استجماع حياة اكثر من ثلاثة أشهر نفارق فيها القرية حيث يحدثنا شغاتي عن أيام تلتهب وحرمس يجوع ويشرب دماء اجسادهم النحيفة فيما الماء الاخضر الثقيل لا يروي فيهم الظمأ ولهذا يقضي اغلبهم النهار عائماً مع جاموسيه تحت للهيب شمس لاترحم.

وبسبب ألم الصيف واحزان آب قررت أن اقضي واحدا من تلك الأشهر الآبية في القرية التي تقع فيها مدرستي ، وفيما كان بقية المعلمين يحزمون حقائبهم السياحية الى فارنا واسطنبول وروما واقلهم موردا يذهب ليصيفَ في مدينة شقلاوة بأربيل .

احمل انا حقائبي واطلب من شغاتي ليبني لي سوباطاً انام عليه في ليل آب المسكون باللمعان الحاد لنجوم السماء الصافية ، ولأكتشف أن هذا الليل بعد الثانية عشر يتحول الى ليل شتائي احتاج فيه الى اكثر من بطانية ، وفي هذا الليل ايضا امتلكت الرؤية كاملة عن الذي كان يحدث في الجبهات حين انتهت الحرب في آب ، وقبل سفري البعيد بعام بدأت اؤسس مع النسائم الباردة التي تصفع جحيم النهار فأستمع في حلقة سمر مع ابناء القرية من الجنود الى حكايات تبدأ بحقل الالغام وتنتهي بأجساد تقطعها الشظايا الى نصفين ، وأكثر تلك الحكايات ما كان يرويه الجندي (مري دوحان ) وكان واحد من تلامذتي قبل ان يكبر ويذهب جنديا في جبهة بحيرة الاسماك حيث يتحدث عن جو خانق في نهارات آب يدفع الجنود ليقفزوا من خنادقهم من اجل نسمة هواء فيكون لهم القناص الايراني في المرصاد.

ثلاثية آب ونسمة الهواء والموت حملتها مرة الى جاري الالماني الذي بلغ الخامسة والثمانين من عمره وكان جنديا في الحرب الثانية ، فأخبرني أنهم في آب يتشائمون كثيرا عندما كان هو في جبهة ( ستالين غراد ) حيث يسمونه شهر الامطار والاوحال حيث تصعب فيه حركتهم وآلياتهم ، فيما الروس خبروا المشي والحرب في اوحالهم ولهذا كما يقول العجوز:  ابتداءً من آب يبدأ سُبات الحرب بالنسبة للألمان فنقتصد في كل شيء .

بين آب في ستالين غراد وآب في أهوار أم شعثه هناك ذكرى عن شهر يقولون عنه أنه في النهار لهاب وفي الليل جلاب أي بارد كما الثلج ، ولكنهم نسوا ان يقولوا : وفي آب كان الأبناء يجيئون بتوابيت أو عكازات……….!