وجع العقائد الدينية:عندما تتحول الهزائم لترسيخ سردية (النصر) الإلهي في العقل الجمعي؟

وجع العقائد الدينية:عندما تتحول الهزائم لترسيخ سردية (النصر) الإلهي في العقل الجمعي؟

*أبارك هذا الأنتصار على الكيان الصهيوني الزائف ! عفوآ ؟ خطأ في الترجمة : أبارك هذا الأنتصار الزائف على الكيان الصهيوني ؟ هذا الاصح ؟. يا للعجب ! أيها السيد المبعوث فينا ! يُباركون (انتصارًا إلهيًا)،  كأن الله نفسه وقّع على خطاب (النصر) هذا !وكأن مئات الصواريخ التي أمطرت عاصمتكم بالأمس كانت مجرد ألعابًا نارية في عيدٍ وطني! عفوًا، هل اختلطت الأوراق؟ أم أن هذا (النصر) هو مجرد وهمٍ آخر يُباع للقطيع المُبرمجة؟ من لا يرى هزيمةً مُذلة من خلال غربال الدعاية، فهو ليس أعمى البصر فحسب، بل أعمى البصيرة، يرقص على أنقاض الحقيقة ويُصفق لجحور القادة المختبئين في الأعماق الجبال السحيقة ليس فقط باجسادهم وفي عقولهم أيضآ!

ها نحن نقف أمام أعتاب حرب أخرى، ولكن من النوع الذي يدار خلف الميكروفونات وشاشات التلفزة بالخطب العقائدية الدينية التي تلوح لنا بهذا (النصر الإلهي) الساحق الذي أستحقه الاعداء , ولنشاهد فصلٍ جديد من مسرحية تراجيدية أخرى لتعكس لنا مرآة مأساة واقعنا ، تلك الأسطورة المُزيَّفة التي تُصنع من عرق الخوف ودماء الضحايا، بينما القادة المُلهمون يختبئون في جحورٍ أعمق من ضمائرهم. وبينما كانت السماء تُمطر صواريخ من مختلف الأنواع والأحجام وبدقةٍ عالية ومُرعبة، والمئات والألاف يفرون من منازلهم مذعورين، متشبثين بتحذيراتٍ التي أطلقها الأعداء وبتفاصيل الضربة القادمة المحددة بالساعة وبالزمان والمكان، كان (( أبطال / النصر الإلهي)) يحفرون أعمق في باطن الأرض، مختبئين كا الذي التي يفرّ من عاصفة. أين هم الآن، هؤلاء المسؤولون الذين يُبشروننا بـ (النصر) من خلف شاشات التلفزة، بينما كانوا يرتجفون تحت الأرض، يُحصون نبضات قلوبهم بدلاً من قذائف العدو!؟

لم نشاهد هذا (النصر الإلهي) الذي يُرددونه، ولم نسمع إلا همهماتٍ مكتومة من مخابئهم، حيث كانوا يُصغون إلى أصوات الانفجارات كما يُصغي المرعوب إلى قدره. بينما كانت العاصمة تُغرق في الفوضى، وكان الشعب يركض في الشوارع كالقطيع الأغنام المذعور من قدوم الذئاب، كان هؤلاء (القادة) يُتقنون فن الاختباء، مُحاطين بجدرانٍ من الخرسانة والأوهام. والآن، بعد أن سكتت صواريخ الطائرات ودخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، يزحفون من مخابئهم كالأبطال المزيفين، يُلوّحون بأعلام ورايات (النصر الإلهي)، وكأن السماء أمطرتهم شجاعةً بدلاً من صواريخ. وتلك المهزلة التي تُحوّل الهزائم المُذلة إلى انتصاراتٍ زائفة، تُزيَّن بأكاليل الغار المصنوعة من ورق الصحف المُعاد تدويره. اليوم، وبعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الهشّ، الذي قد ينهار بسبب تغريدةٍ طائشة أو تصريحٍ متعجرف، انتقلت المعركة من سماء الواقع إلى الشوارع، حيث يتصارع أنصار الطرفين في حربٍ كلامية وإعلاميةٍ شرسة، لا تقلّ فداحتها عن واقعها العسكري.

الكيان الاستيطاني والذي أثبتت تفوقه العسكري بضرباتٍ منسقة ودقيقة أودت بحياة معظم قيادات النخبة العسكرية والصف الأول والعلماء النوويين والعشرات من المواقع والقواعد العسكرية والأبنية الأمنية والاستخبارية الرئيسية والمهمة، ما يزال يحتفلون الى الآن ونصب خيام الاحتفال في “ميدان انقلاب”، معلنةً “نصرًا إلهيًا” لا يراه إلا من أصيب بالعمى السياسي المزمن. يا لها من عبقرية! أن تُحوّل هزيمةً موجعة ومذلة إلى لوحةٍ وردية تُعلَّق على جدران العقل الجمعي المُخصّى، الذي أُعدَّ على مدى عقود لابتلاع الهزائم كوجباتٍ سريعة، مع صوصٍ إضافي من الدعاية الدينية.والأخر الكيان الاستيطاني سارع الى ميدان “رابين”، كأنها أعادت اكتشاف أمريكا أو اخترعت عجلة (النصر) من جديد.

لنكن صريحين، إن “النصر الإلهي” ليس سوى مسرحيةٍ هزلية، كتبها مخرجون سياسيون فاشلون، ومثّلها جمهورٌ مُبرمج على التصفيق حتى لو كان المشهد الأخير عبارة عن جثثٍ متناثرة وأحلامٍ محطمة. جمهورية العقيدة الدينية والتي خسرت عشرات القيادات والعقول النووية، تُصرّ على أنها انتصرت لأنها (صمدت) في وجه الضربات الموجعة التي تلقتها، وكأن (الصمود) هو أن تتلقى الضربات وتبقى واقفًا ككيس ملاكمة مثقوب. غريمتها التي تطلق عليه الكيان الاستيطاني والتي لا تحتاج إلى طبول الدعاية لتثبت تفوقها العسكري الجوي، لتنزل إلى مستوى خصمها، فتُنظّم احتفالاتٍ صاخبة، كأنها تخشى أن ينسى العالم انتصارها وإن لم تُردد اسمه في كل نشرة أخبار.

ما يثير السخرية الموجعة والمأساة أكثر، هو هذا التزامن الغريب: الطرفان يحتفلان بالنصر في الساعة السادسة مساءً، كأنهما اتفقا مسبقًا على تقاسم الكعكة الوهمية. التلفزيون الدولة الثيوقراطية يبثّ نشراتٍ عاجلة عن “انتصارٍ عظيم”، بينما هيئة البث الاستيطانية تُعلن عن “نصرٍ ساحق”، وكأن الحرب لم تكن سوى مباراة كرة قدم انتهت بالتعادل، وكل طرف يدّعي أنه سجّل ركلة الجزاء الحاسمة. لكن، دعونا لا ننسى الضحايا الحقيقيين: العشرات من القادة والعلماء الذين لن يعودوا، والشعوب التي تُساق كالقطيع لتصديق هذه الأكاذيب المتلفزة التي تروجها مكانة الدعاية.

يبدو أن قيادة حكومة الثيوقراطية قد درست جيدًا كتيّب “كيف تحول الهزيمة إلى نصر”، الذي أبدعه العقل السياسي العربي ونظامه الشمولي القمعي وعلى مدى العقود الماضية ورسوخها أيضا في العقل الجمعي العربي. من نكسة 1967، التي تم تسويقها كـ “انتكاسة مؤقتة”، إلى حرب 1973 التي أُعلنت كـ”عبورٍ عظيم” رغم أنها لم تُغير موازين القوى، وصولاً إلى “أم المعارك” عام 1991، التي كانت في الحقيقة أم الهزائم، ويتكرر المشهد ذاته. والقيادة الدينية المتشددة الآن يقلّدون هذا النموذج ببراعةٍ مُخجلة، فهم يُحوّلون هزيمتهم المُذلة إلى “نصرٍ إلهي”، ويطالبون الشعب بالتصفيق بحرارة، وإلا فإن الكاتم الصوتي جاهزٌ لمن يجرؤ على التفكير بحياد ا وأن يعارض طريقة تفكير هؤلاء الذي أصبحوا عقولهم المتحجرة محنطة في متاحف الموت قبل أجسادهم.

هذا التكرار المملّ لتاريخ الهزائم يُظهر مدى هشاشة العقل الجمعي، الذي أُعدّ بعناية ليكون أداةً طيعة في يد الدعاية ونشر الخرافات والأساطير الدينية. لا مكان للحياد هنا، وصوت العقل والمنطق فأنت إما مع (النصر الإلهي) أو ضدّه، وإن اخترت أن تكون إنسانًا يتنفس حرية الفكر والإبداع، فستجد نفسك مُلاحقًا بتهمة الخيانة العظمى أو التآمر نمع الأعداء على ترويج الأكاذيب نصرهم الإلهي. هم “جند الله في الأرض”، كما يُسمون أنفسهم، لا يقبلون إلا بالطاعة العمياء، فلا منطقة رمادية، ولا هواء نقي لمن يريد أن يفكر خارج الصندوق.

قائد الأوركسترا والذي لا يفوّت فرصة ليضع نفسه في قلب أي حدث مسرحي هزيل، خرج ليهنئ الطرفين على “انتصار السلام”، وكأن الحرب كانت مجرد سوء تفاهم بين جيران، انتهى بمصافحة دافئة. لكن، دعونا لا نُخدع: هذا الهدوء المفاجئ ليس سوى استراحة محارب، تنتظر شرارةً جديدة لتتحول إلى جحيم. الضجيج الإعلامي، بكل تهريجه وصخبه، لن يُعيد الحياة إلى من رحلوا، ولن يُعيد الكرامة المسلوبة إلى شعوبٍ تُساق القرابين على مذبح سردية النصر الإلهي

في النهاية، هذه المسرحية الساخرة ليست سوى دليلٍ آخر على أننا نعيش في زمنٍ أصبحت فيه الحقيقة سلعةً رخيصة، تُباع وتُشترى في سوق العقائد الدينية الزائفة. النصر الحقيقي الوحيد هو لمن يملكون الجرأة لرفض هذا العبث والاستهتار بأرواح الأخرين، ولمن يختارون أن يروا الهزيمة كما هي: هزيمة، لا نصرًا إلهيًا مزيّفًا يُزيَّن بالأكاذيب والخرافات والأساطير الدينية وما هو إلا في حقيقة الامر قناع زائف يخفي خلفه وجه الخيبة , لكن، هل يجرؤ أحد على كسر هذا القالب وتمزيق هذا القناع والذي ترسخ في العقل الجمعي؟ أم أننا سنظل نصفق لكل هزيمةٍ جديدة، ونُردد: “مبروك هذا النصر الإلهي الساحق، يا أمة الأوهام والسراب!؟

 إنها لحظةٌ تُساق فيها الحقيقة إلى المذبح، وتُذبح الكرامة تحت أقدام الدعاية، بينما يُردد المُبرمجون: “صمدنا!”، وكأن الصمود هو أن تتلقى الضربات حتى الإغماء، ثم تستيقظ لترقص على أنقاض الخيبة. الهزيمة هي هذا العمى السياسي الذي يجعلك ترى جثث القادة العسكريين والعلماء كميداليات شرف، وتُسمي الجحور قلاعًا، والخوف بطولةً. إنها مسرحيةٌ بلا جمهور، إلا من أُصيب بالعمى البصر والبصيرة، يُصفقون للسراب ويُرددون: مبروك النصر!، بينما الحقيقة تُذبح على قارعة الطريق. وإذا كان هذا هو شكل (النصر الإلهي) فكيف يكون شكل ( الهزيمة) في سردية قاموسكم ؟.

[email protected]

هامش ضمن السياق / آخر إحصائية رسمية نشرت : في يوم الجمعة الساعة الرابعة فجرا 13 حزيران ، شنت إسرائيل بدعم أميركي عدوانا على إيران استمر 12 يوما، شمل العشرات من مواقع عسكرية ونووية ومنشآت مدنية وعسكرية ومنصات صواريخ بالستية واغتيال قادة عسكريين وعلماء نوويين، وأسفر عن 606 قتلى وأكثر من 5 آلاف مصاب، وفق وزارة الصحة الإيرانية. وردت إيران بعد ساعات باستهداف إسرائيل بصواريخ باليستية ومسيّرات هجومية ، اخترق عدد كبير منها منظومات الدفاع الجوية، مما خلف دمارا وذعرا غير مسبوقين في مختلف المدن والبلدات ، فضلا عن 28 قتيلا وأكثر من 3 آلاف جريح، حسب وزارة الصحة الإسرائيلية ووسائل إعلام عبري.

أحدث المقالات

أحدث المقالات