22 ديسمبر، 2024 9:18 ص

من وحي شهريار وشهرزاد (45) أبنك عالم أو فاسد .. الأمر بين يديك

من وحي شهريار وشهرزاد (45) أبنك عالم أو فاسد .. الأمر بين يديك

شهرزاد : ليس كل التجارب التي يخوضها الأبناء تتعلق بخطر ملموس ، بل إن غالبية التجارب تلامس النفوس ،ألا تتفق معي ؟

شهريار :معكِ حق .. لكن تذكري ماقلته في جوابي على سؤالك السابق :”علينا ان نعلمهم القواعد العامة لكل تجربة “.

والقواعد العامة لخوض التجارب النفسية تعتمد على تثبيت المبادئ الأخلاقية ( السمات الأخلاقية) في نفوس أولادنا ، وعدم الأكتفاء بتعليمهم سلوكيات التعامل مع الناس التي تشمل التوجهات الإيجابية ، فإنْ كانت مهارات التعامل ،أو ما يسميه ذوو الإختصاص (بالأخلاق الشخصية ) لا تعتمد على المبادئ الأخلاقية مثل الصدق وحفظ الأمانة والإنصاف والتواضع وغيرها من القيم العليا ، فإن مهارات التعامل تكون مبنية على مشاعر مصطنعة كالإبتسامة الزائفة ،والتملق والثناء غير المستحق من أجل الوصول الى غاية ،أو التمسك بوظيفة ،أو النجاح المؤقت في عمل ما ، وحتى لا نتهم بأننا لم نفرق بين الأمرين فيما سبق فها نحن نُذكّر بأن حديثنا عن الأبتسامة كمفتاح لقلوب الناس كان مسبوقا باعظم المبادئ الأخلاقية وفي مقدمتها المحبة التي هي أساس للتواضع والأمانة وصدق المشاعر وصولا الى الإبتسامة الصادقة .

هكذا هو الحال دائما ياشهرزاد .. حينما نزرع المحبة في قلوب أولادنا تنساب من بين أنوارها الخالدة جميع المبادئ الأخلاقية الأصيلة ، ولست أعرف إنسانا تربى على حب الناس وتوقير كبيرهم ، والعطف على صغيرهم ، واحترام توجهاتهم المتباينة ، وكان مخادعا في ابتسامته ، خائنا للأمانة في معاملاته ، منافقا او مرائيا في سلوكياته ، كذوبا في كلامه ، حسودا في مكامنه ، ذلك سر الحكاية : كل ماتجود به النفس من خير هو في الأصل محبة .

شهرزاد : لكن ألا ترى معي أن الأبناء والبنات من أصحاب القلوب المُحِبَة أكثر تضررا ممن سواها حينما يخوضون تجاربهم الاولى في الحياة ؟.

شهريار : ذلك يعيدنا الى معترك القلوب الطيبة مع المنافقين والكسالى والعدوانيين والمازوخيين وغيرهم ، لكنني على يقين بأن البقاء للأصلح ، ومن أصلحُ ياشهرزاد من قلب عامر بالمحبة والإخلاص والصدق والأمانة ؟ وإنْ تكالبت عليه أمم الأخلاق الزائفة ممن يجيدون التصنّع ، أولئك لن يدوم لهم العهد ، وضغوطات العمل والعلاقات الإجتماعية المتزاحمة كفيلة بكشف المستور من العيوب المخبأة تحت عباءة (الشرف الصناعي) .

إنها رسالة مستمرة الى يوم القيامة ..فكما إن الإحباطات والصدمات كان تزيد الآباء والأمهات الأمناء تمسكا بالسمات الأخلاقية الفريدة ، فإن تلك المبادئ والقيم العليا كفيلة بتصدي الأجيال المتلاحقة -التي تتربى عليها – لمهارات التواصل السطحية التي دفع باتجاهها الكثير من كتاب القرن العشرين والمفكرين في قرننا هذا ، تحت غطاء التوجه الإيجابي ، وهم يمجدون السمات الأخلاقية لتلميع النصوص لكن المتبحر بين السطور المنمقة يجد (غاية نيكولو مكيافيلي) حاضرة بقوة ، فالإبتسامة المصطنعة ، والحديث المنمق ، والمجاملات على حساب الحق بحجة التوجهات الإيجابية ومهارات التواصل في الحياة ليست أقل ضررا من تبرير مكيافيلي لاستخدام الوحشية والبطش من أجل غاية يراها هو سامية (تثبيت أواصر الحكم) إبان عصر النهضة .

وقد يرى البعض ياشهرزاد كلامنا أحلاما صعبة المنال في وقتنا الحاضر ، لكنني أتساءل : كيف استطاع فلاح بسيط أن يكون أبا لمهندس بارع ، او جراح ماهر ، إنْ لم تكن تلك الخلطة السحرية ( السمات الاخلاقية) هي الأساس الذي انطلق منه إبن الفلاح الى عالم الإبداع والشهرة والنجاح ؟.

ولماذا أخفق الملياردير في أن يكون أبا لولد صالح متعافٍ من أمراض الجشع والتكبّر والعدوانية ؟ ، بالتأكيد لأنه أوغل في تعليمه فنون النجاح السطحية ،ونسيَ أن يغذي روحه بالقيم العليا ،فلم تسعفه أمواله الطائلة بإطلاق المحبة الغارقة تحت التعجرف و(الأنا المتعالية) في قلب ابنه الضال .

شهرزاد : وكيف لك أن تبرر المثل الشائع ( يَخلقُ الله من ظهر العالِم فاسد ، ومن ظهرِ الفاسد عالِم ) ؟ ، ولا أظنك تنكر أن الشواهد الحية كثيرة على مدى التاريخ؟.

شهريار : أمّا الشطر الثاني من المثل فجوابه سهل للغاية ، فلو بحثنا في تاريخ العلماء من ظهور الفاسدين لوجدنا من خلفهم أمّاً عفيفة نزيهة ، أو خالاً او عمّاً فاضلاً غرس تلك القيم والمبادئ في (العالِم الناشِئ )، وفساد أبيه زاده تعلقا بها ، وهو يراه منكسرا مخادعا كذوبا متحايلا غير محمود عند الله والناس .

وقد يكون (فاسدا من ظهر عالِم ) ، فلا أرى له سببا غير (قبعة الخبير) التي حالت دون الإنصات للمراهق المتمرد على أوامر العالِم الذي كان حريصا على إفراغ كل صغيرة وكبيرة تعلّمها في ذهن إبنه الذي يراه عاقّا ، من غير أن يفكر للحظة بمد جسور الثقة معه ، هو يلومه في كل يوم ، ويعيد عليه كمّا هائلا من المعلومات والحكم والنصوص المقدسة ، لكن جميع تلك القيم لم تكن كافية ليشعر المراهق ( الفاسد) برغبة في التعلُم ، والعالم لم يَتعلّم من حِكَمِه كيف يقرأ أفكار ولده ؟ ليشعره بالأمن والأمان ، وليتمكن بالنتيجة من الإنصات لعلم والده .

ولو أن العالِم ألقى بكل علمه همسا لما سمعه المراهق إلا وكأنه يصرخ في أذنيه في ذلك الموقف المتكرر من دون جدوى، لتكون حكمة إمرسون حاضرة بقوة :

” عندما تصرخ في أذني لا أسمع ماتقول ” .

نعم .. إن صاحب المبادئ القويمة يمتلك قوة الشخصية غالبا لكنه قد يفتقر الى مهارة التواصل وبناء العلاقات المتينة ، والمحبة غير المشروطة مع أولاده ، وأحد أبوابها الإنصات ، فكما أن الراشد والمفكر وأصحاب العلوم والتخصصات يحبون أن ينصت إليهم الناس ، فإن للأبناء والبنات هموما وأحلاما وتصورات يرغبون بأن نستمع إليها نحن الآباء والأمهات، ومن دون ذلك التواصل (قد يخلقُ الله من ظهر العالم فاسد) .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]