في توقيت بالغ الحساسية، خرج رئيس حكومة إقليم كوردستان، مسرور بارزاني، بتصريحات تؤكد أن باب الحوار مع بغداد لا يزال مفتوحًا، رغم أن “أبواب بغداد”، كما يبدو من الوقائع، لا تزال موصدة في وجه استحقاقات دستورية أساسية، على رأسها حق موظفي الإقليم في الرواتب. ورغم أن حديثه حمل نبرة دبلوماسية متفائلة، فإن مضمونه كان واضحًا في التعبير عن مرارة سياسية تتراكم منذ سنوات.
فأزمة الرواتب ليست جديدة، وقد تعاقبت عليها حكومات عراقية متتالية، لكن الجديد هذه المرة هو حجم الاستنزاف السياسي والاقتصادي الذي تسببت به، في ظل عجز الدولة الاتحادية عن تقديم تفسير قانوني أو دستوري مقنع لاستمرار الحجب. فرغم عشرات الوعود التي سمعها المواطن الكردي من وزراء ومسؤولين في بغداد، لا تزال الرواتب عالقة في مستنقع المساومات السياسية، وسط ذرائع متكررة تتعلق بالمخالفات الإدارية أو التحفظات المحاسبية، وهي حجج باتت معروفة لدى الرأي العام، بل ومستهلكة.
وراء هذه الأزمة، تقف سياسة ممنهجة لإضعاف الإقليم، وفق ما يراه مراقبون، تقوم على استخدام الملف المالي كأداة ضغط سياسي لإعادة تعريف العلاقة بين أربيل وبغداد، من شراكة قائمة على الفيدرالية كما ينص الدستور في مادته الـ117، إلى علاقة أقرب للتبعية الإدارية والمالية. هذا التحول لا يستند إلى منطق القانون بقدر ما يعكس تغيّر موازين القوى، خاصة مع تصاعد النفوذ الإيراني داخل المؤسسات الاتحادية وتراجع الدور الأميركي، ما جعل من أربيل هدفًا لمحاولات إعادة الضبط السياسي والاقتصادي داخل الدولة.
الخلل لا يقف عند حدود المال. فالمؤسسة القضائية، التي يُفترض أن تشكل صمام أمان دستوري في مثل هذه النزاعات، أصبحت هي الأخرى جزءًا من المأزق. المحكمة الاتحادية، التي سبق لها أن أصدرت قرارات أثارت جدلًا واسعًا بشأن شرعية صادرات النفط من كوردستان، دخلت في حالة شلل تام بعد استقالات مفاجئة لعدد من قضاتها، مما عطّل البت في الملفات العالقة، بما في ذلك الطعن الذي تقدمت به حكومة الإقليم بخصوص الرواتب. وفي ظل هذا الغياب القضائي، لم يتبقَّ سوى الأمل في تحرك مجلس القضاء الأعلى، رغم أن تجارب السنوات الماضية لا توحي بوجود إرادة سياسية فعلية لحل جوهر الخلاف.
وفي خلفية هذا المشهد، يقف ملف الغاز الطبيعي كعنصر ضغط إضافي. فالإقليم يمتلك احتياطيات ضخمة، ويعمل مع شركات دولية مثل Dana Gas، ضمن تحالف Pearl Petroleum، على تطوير حقول خورمور وجمجمال التي تغذي محطات الكهرباء الرئيسية في الإقليم. كما تسعى أربيل، بالتعاون مع شركات أميركية بموجب العقود الجديدة الموقعة في واشنطن، إلى رفع إنتاج الغاز الطبيعي بما يحقق اكتفاءً شبه تام من الطاقة الكهربائية، يقدّر بنحو 8000 ميغاواط. وقد ينتج عن ذلك فائض يمكن تصديره إلى مناطق عراقية أخرى تعاني من عجز يصل إلى 30 ألف ميغاواط. هذا التوسع يفتح الباب أمام تحوّل استراتيجي في موقع كوردستان ضمن خريطة الطاقة الإقليمية. غير أن هذا التوجه يثير قلق بغداد، التي بدورها تعمل على تعزيز علاقاتها الطاقوية مع الصين وإيران، وتصر على احتكار قرار التصدير والسيادة على ملف الطاقة في عموم العراق. وهنا، لا تعود أزمة الرواتب مجرد قضية مالية، بل تتحول إلى امتداد طبيعي لصراع أوسع حول من يملك القرار الاقتصادي، ومن يحدد مستقبل العراق في سوق الطاقة.
كل هذه التعقيدات تجري في ظل محاولات دولية حثيثة لاحتواء الأزمة. الولايات المتحدة، التي ما زالت ترى في إقليم كوردستان شريكًا أساسيًا في الحرب على الإرهاب وفي توازن الداخل العراقي، كثّفت من لقاءاتها مع الطرفين. وقد أكدت مسؤولة شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركية، مورا نامدار، في تصريحاتها الأخيرة، على أهمية الوصول إلى تسوية مستدامة تحفظ خصوصية الإقليم ضمن عراق موحد ودستوري. هذه المواقف، وإن كانت إيجابية في مضمونها، لا تزال تفتقر إلى الضغط العملي المطلوب، في ظل غياب نية سياسية واضحة داخل بغداد للاعتراف الكامل بحقوق كوردستان والتعامل معه كشريك، لا كطرف تابع.
وفي المحصلة، لا يمكن اعتبار الرواتب مجرد أزمة عابرة. إنها تمثل العنوان الأبرز لصراع سياسي مفتوح حول هوية العراق نفسه: هل هو دولة اتحادية مدنية تحترم التعدد والتنوع؟ أم مجرد مركز يفرض إرادته على الأقاليم ويُخضعها للابتزاز المالي؟ موقف مسرور بارزاني الأخير لم يكن استعراضًا إعلاميًا، بل إنذارًا ناعمًا: إن لم تُحلّ القضايا بالحوار، فإن الواقع سيفرض خياراته، والشعوب التي تُترك بلا رواتب لا يمكن أن تبقى إلى الأبد على طاولة الانتظار.