يشير (( لحن القول))  إلى المعنى الخفي للكلام , وفحواه الذي يفهمه المستمع من وراء ظاهره , إنه التعبير عن المقصد الحقيقي , وما فيه من تعريض أو تورية لا يصرح به المتكلم , وصدق القرآن حين قال : (( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْل )) فالكلمات هنا ليست مجرد حروف , بل هي مرآة تكشف ما في القلب من خير أو شر , وفي هذا الزمان يسود نفاق الإعلام وتلون المواقف , يتجلى النفاق سيدًا لمنمق الكلام , وكأن ناظم السماوي اختصر استحقاق بعض الناس بجملة واحدة : (( ولك لو تسوى العتب چا عاتبيتك )) , وفي حين كانت المقاهي تثقّف , أصبحت الجامعات تخرّج لنا جهلاء , وتستعيد الذاكرة أحداثًا تبيّن كيف يلحن القول ليخفي نفاقًا , عندما سقط نابليون بونابرت , وصفته الصحف التي كانت تسبح بحمده بأقذر الكلمات , ولما استطاع الفرار من منفاه , قالت : (( الوحش هرب )) , وحين نزل إلى ساحل فرنسا , قالت : (( الكلب يريد أن يدنس أرضنا )) , ولكن عندما انضمت قوات الجيش إليه وثبت أنه في طريقه إلى باريس , تبدّل لحن القول تمامًا , قالت الصحف : (( إن جلالة الإمبراطور في الطريق )) , وحين دخل باريس , قالت : (( أشرقت الدنيا بعودة الإمبراطور إلى عرشه العظيم )) , هذه القصة تظهر بوضوح كيف أن لحن القول في الإعلام يكشف عن عدم ثبات المواقف.

هناك اللحن في الفن والحياة اليومية , فإن الكلمات مادة لينة في يد الشاعر يعيد تشكيلها حتى تنبض بالحياة , وكما يعكس الماء وجه الشاعر , تعكس القصيدة روحه , ويتجلى لحن القول في الفن أيضاً , ففي مشهد شهير من فيلم (( العار )) 1983 , سأل محمود عبد العزيز نور الشريف : (( الحشيش حلال ولا حرام؟ )) , فرد عليه نور الشريف بفهلوة وسرعة بديهة : (( إذا كان حلال أدينا بنشربه , وإذا كان حرام أدينا بنحرقه )) , هذا الحوار يلخص ثقافة شعبية تميل إلى التبرير واللعب بالألفاظ لتجنب إعمال العقل , مما يجعلها هدفًا لكل من يريد إثارة الجدل .

وعندما يكون القول صادقًا , يكشف عن عمق صاحبه , فقد جاء الشاعر ابن الرومي إلى الفقيه ابن داوود الظاهري وكتب له : (( يا ابن داوود يا فقيه العراقِ أفتِنــا في قواتــل الأحــداقِ هل عليهن في الجروح قِصاصٌ أم مُباحٌ لها دم العشّـــــاقِ ؟ )) , فأجابه الفقيه على ظهر الورقة : (( كيف يُفتيكم قتيلٌ صريع بسهام الفراق والاشتياقِ؟ وقتيل التلاقِ أحسنُ حالاً عند داوود من قتيل الفراقِ )) ,  لقد أظهر الفقيه بحكمته أن (( لحن القول )) لا يُفهم بالعقل فقط , بل بالقلب أيضاً.

بين الإيمان والنفاق تتجلى حكمة القاضي في بغداد عام 1966 , قرر (( حنّا المسيحي )) أن يفتح محلًا للخمور قرب مسجد خليل باشا الجركسي , اعترض الملالي , وأصبحوا يدعون على حنّا في صلواتهم , فجأة , حدثت عاصفة ترابية أغلقت المحل , احتفل الملالي بانتصار السماء , لكن حنّا لم يستسلم , فرفع دعوى قضائية يطالب فيها بتعويض مئة دينار , مدعيًا أن دعاءهم هو من سبب العاصفة , أنكر الملالي ذلك , وأكدوا أنه لا تأثير للدعاء على مجريات الحياة , فنظر القاضي حسين أبو طبيخ في الأمر وقال بحكمة : (( لا أعرف كيف سأحكم في هذه القضية , ولكن يبدو من الأوراق أن لدينا خمّارًا يؤمن بقوة الصلاة والدعاء ولدينا ملالي لا يؤمنون بها )) , هنا يتجلى لحن القول بوضوح , فالأفعال تكذب الكلمات , والحكمة تقول:  إياك ومرافقة المنافق المتلوّن , فهو يأكل مع الذئب , وينبح مع الكلب , ويبكي مع الراعي .

أحدث المقالات

أحدث المقالات