يعاود صاحبنا ذكر صاحبته الكاتبة الدمشقية , ويحن الى سطورها , يختار هذه المرة اقوال يعتقد أنها تحتاج الى مراجعة من روايتها ( قمح داكن على المعصم ) : قول الكاتب الروسي دستويفسكي : (( على الانسان الا ينبش في الذاكرة اذا اراد ان يعيش سعيدا )) , وتعقيبها : (( حتى يعيش الانسان بسعادة الى حد ما عليه ان يمتلك خيالا , فالخيال وحده الذي ينقله كبساط الريح بسرعة من مكان الى اخر , ومن مشاعر الحزن الى الفرح , ومن العتمة الى النور , فكم من سجين خفف عن نفسه مدة سجنه بخياله ؟ وكم من امرأة قعدت امام باب دارها تنتظر ابنها الغائب وهي تتخيله قادما فتبتسم ؟ )) , حتى أكاد أسمعه من كثرة حنينه يردد أغنية عبد الوهاب : (( حن , حن , ياللي هجرت الروح , وملكش قلب يحن , قلبي أنا مجروح بين الضلوع بيئن , ارحم آلامي ارحم آلامي وحن )).
أيتها الدمشقية أنني مسكون بك , ولكني لستُ هنا لأبقى , أنا عابرٌ يتعلمُ كيف يكونُ الماء , كيف ينسابُ دون أن يكسرهُ شيء , وكيف يصيرُ, في النهاية , بحرًا لا ينتهي , في زاويةٍ بعيدةٍ من الكون حيث الصمتُ يبتكرُ لغته , جلستُ أخيطُ أحلامي بإبرةِ ضوء,
وأرتقُ ثقوبَ الروحِ بأغنياتٍ منسية , كلُّ شيءٍ هنا يهمسُ , الأشجارُ تنحني لتلتقطَ ظلالها ,الأنهارُ تسيرُ عكسَ التيار , والسماءُ تخلعُ زرقتها لتتنفسَ الليل , وأنا ظلُّ الوقت , أراقبُ الساعاتِ وهي تبتلعُ نفسها , أعبرُ بين المرايا , أرى وجهي يتكسرُ كزجاجٍ يتعلم الطيران , الأرضُ ليست أرضًا , إنها ذاكرةٌ تستريحُ تحت أقدامنا ,تنبتُ من جراحها ورودٌ بلا أسماء , وأشجارٌ تضحكُ حينَ تُحرق , وفي قلبي غابةٌ من أصواتٍ , صوتُ الريحِ يعلمني الرقص , صوتُ المطرِ يكتبُ على جلدي قصائدَ لا تُمحى , وصوتُ الصمتِ يصيحُ : لا تخف , رأيتُ الحياةَ تتوارى خلف ستارٍ رقيق , تنتظرُ أن نراها بعيونٍ أخرى , عيونٍ تعرفُ كيف تصنعُ من الخسارةِ جناحين , ومن الرمادِ قممًا لا تطالها الريح .
ولكن رغم كل هذا الأمل والخيال , تبقى الذكريات كالحكايات لا ينقصها العمر, تمرّ من كلّ الأزمنة , ملامحها تتناقل كالنصوص التي تسرد في الروايات , ونتخيل اننا سنكون يوما ما أبطالها لننقل بها تفاصيل حياتنا من طفولتنا إلى اللحظات الجميلة الممزوجة بالألم , وإلى ذكرى الرحيل الذي أرغمنا على مغادرة أماكننا , ونظل نراها تقف أمامنا تدمعُ , وتحاول التشبث ببقايانا العالقة على أطراف الطرقات كطفلٍ قد انتزع الموت منه أمه , ذكريات حفرت داخل أعماقنا , وصورٌ حفظت في عيوننا , حنين عظيم حبسناه داخلنا , والأشواق باتت واضحة بكلماتنا , والحب لا يمكن أن نخفيه فينا , فلا يستطيع إنسان أو قوة في الوجود أن تمحو الذكريات تماماً .
كتبت سركول الجاف : (( الحب والحلم هما القوة الخارقة التي من خلالها نستطيع ان نحقق غاياتنا وطموحاتنا والدافع لاكمال مسيرة الحياة , فابتسم رغم مآسيها , و الامل هو حلم شخص مستيقظ , كما يقول أرسطو)) , أو كما كان سعد الله ونوس يقول دائما: (( نحن محكومون بالامل )) , الأمل يعني القدرة على الانتقال من فشل إلى فشل دون فقدان القدرة على التفاؤل , يعجبني ماكتبته د . طاهرة دخيل : (( إن الشجرة لا تبكي على غصنهاالذي إنكسر من الريح ولكنها تنتظر الرّبيع لتنبت غصناً آخر وتُزهر , وهكذا هي الحياة إن ما تخسره ليس بالضرورة أن تسترده , فانتظر ربيعك وأنبت غصنا آخر وأزهر كما يليق بك , وكما يقول المثل : ليس الأمر ما إذا كنت ستسقط أرضاً , بل ما إذا كنت ستنهض )) , حينها ينبت الحلم من الرماد .
أفتش بين ثنايا الضحكات عن سعادتنا , وتأخذني الأحاسيس إلى أحلامنا , وأرى الثواني تمضي من أمامنا , ولا تزال نفس المشاعر فينا , ودفاترنا لا زالت مملوءة برسم طفولتنا , ومقاعدنا لازالت تحوي دفء حكاياتنا , ومع أمتلاك ذكريات كثيرة , لا تستطيع أن تختار ما تتذكره , فهي التي تفرض نفسها وقت تشاء , وها انا أسير في دروبنا , ذات الدروب التي مشيناها أيام الصبا , وأتساءل متى نعود لأفراحنا , ونحقق أحلامنا , ونسمع صدى الضحكات ؟ ونمسح ډموع الأحزان ؟ ونشبك الأيادي ونرفع الأمل شعاراً ؟
تتراقص روح المولوي وهو يهمس : (( اذا امتلك الدرويش ناصية جمال الروح , يكون متعففا عن اقتراف ضرر المحسوب , والعكس صحيح , يمرّ في حياته للحظات , دون أن يترك شيئًا يُذكر , لكن أثره يبقى كالشمس التي تُدفئ الأرواح حتى بعد غيابها , هكذا يتسلَّلُ عِطر ذكراك , ويَسيلُ قلبِي كماءٍ بينَ ضُلوعِي , اتهجس عطر الروح فيك , كَمذاقاتِ النَّعناع في صَباحِات النَّشوة , كَحنينِ الرَّذاذ , ينثر ُضَوئِي زهورًا لنَدى الشَفتَين , والخيالاتٌ تُداعبُ الفضاء , لتراقص الشلالاتٌ غفوة ألأنبهار , نُورٌ ونَار , لمْ أحسِنْ قِراءَةَ ألواحِي المُقدَّسَة , واخطأ بحقِّ براعمِ المَطر, تحتَ نَخلةٍ زَرَعَها جلجامِش , قَبلَ الرَّحيل ستصلب كما الحلاج , وأنا أخشـَى مِنْ إدمانِكَ على حَبَّاتِ البـَلح )) , وبعض الذكريات أفضل من كلّ ما يمكن أن يحدث لنا ثانيةً.