10 ديسمبر، 2024 10:28 ص

منذ أربعين صباحا وحتى عصر هذا اليوم، ينام أبو كنعان في قبره، وابو كنعان هو عدنان الايوبي، ابن اخ اول رئيس للوزراء في العراق ( جودت صالح الايوبي)، العراقي الوحيد الذي لايمتلك شعرة سوداء في وجهه، شعره وحواجبه وشاربه الكث وحتى لحيته التي لم يسمح لها بالنمو لنطلع عليها من اجل تثبيتها في كنية حياته الموثقة في هذا الراس الذي يتساقط اصدقاؤه بالموت…او بالخيانة!….كان ابيض الوجه..هكذا عاش…وهكذا مات.

كلما أهيىء فنجانا للقهوة…يلوح لي وجه ابي كنعان، هل رأيتم رجلاً رائحته القهوة؟…

اول مرة التقيت بابي كنعان حين كان مديرا لادارة شبكة الاعلام العراقي، منذ اول لقاء التقيته جذبني اليه لقب الايوبي…وانا اشهدكم ان عدنان الايوبي لم يحمل سيفا في حياته، بل كان يحمل نكتته الكبيرة وضحكته التي تملأ أي غرفة يكون فيها، لم يحرر القدس ولم يرق اية قطرة دمٍ…لكنه برغم نظارته الطبية الغليظة النظيفة دوما..كان صاحب فتوحات حياتية لم اجدها حتى في صلاح الدين الايوبي نفسه!.

الموت صاحب عوينات طبية ومكبرة يبصر فيها أسماء قائمته التي تمتليء بمن سيغلق عينيهم على عراق غريب، وقبل أربعين صباحا، كان صاحب مرض السكّري وهو يعبر الثمانين حبة من الدواء الفرنسي، فاجأه الموت كمن يريد سرقة آخر نظرات من عينيه، وبقيا دقات قلبه المثقل بالخيبات…قال له: يكفيك ماتحملت في حياتك…تعال معي..اصطحبه مثل طفل الى حيث ينام الان تحت ظل قبر ظل ينتظره سنوات وسنوات من اجل ابتلاعه…

الوجه الوحيد والروح الوحيدة التي تعلقت بها طيلة سنوات في شبكة الاعلام هو عدنان الايوبي…

حظي الجميل جمعني والايوبي ستة اشهر قبل الرحيل من شبكة الاعلام، غرفة في ممر إذاعة بغداد، سيقول الجميع انها الغرفة الوحيدة التي كانت تعبق بحياة طعمها القهوة، كل صباح، احمل في راسي افكاري الساخرة، وانتظر دلّة ابي كنعان، شلونك أبو علي…اغاتي أبو كنعان…نسوّي كَهوة؟ الكَهوة من ايديك اطيب شيء في العراق…وتبتدأ مسيرة القهوة المغمّسة بروح هذا الشيخ البغدادي…

غرفتنا الوحيدة التي كانت تمتليء بكل الوجوه، اساطير إذاعة بغداد الحبيبة، الفنانون القدامى الذين يزورون غرفتنا ويستمعون لانواع التحشيش الذي ينتهي بالضحكات، ستة اشهر من حياة غير مغمسة بالقلق على الرغم من انها كانت اشبه بالسواطير على الجميع، كان مهووسا بالحقائب الجلدية الصغيرة، كانت طقوسه التي يجمع بها فتات ذكرياته العراقية، كان اشبه بمادة بحث عن الشخصية البغدادية التي تنازل عنها الساقطون من شجرة البنفسج…

أتذكر نكاته وتعليقاته التي لايسلم منها احد، كان احد مصادر روحي الساخنة والساخرة…والساخطة، لكنني اعلن الان امامكم أن اكبر نكتة سمعتها اليوم ان عدنان الايوبي مات منذ أربعين صباحا…ولم اعلم الا حين اتصلت على هاتفه لتجيبني ابنته ان أبا كنعان قد مات منذ أربعين ليلة!!…

صديقي أيها الشايب…اعتذر منك لانني لم اعلم انك الان تسكن في وطن عراقي بطول متر، اعلم ان روحك تمرمرت من هذا القلق الذي تحمل فيه روحك ولستَ بواثقٍ ان تعود الى اهلك كما خرجت منهم…لكنك تستحق جائزة الاحتيال على الموت حين نجحت بايصال نفسك عبر هذ السنوات من الموت الذي تفنن في قطف أرواح العراقيين بصورة سوريالية او قل سروالية…يكفي بانك احتفظت بسروالك على جسدك ولم تلتق بالموت وانت ضحية مقطعة…

تذكرني القهوة بك، فهل علمت انني ساكتب عنك بعد أربعين صباحا عن موتك وانا اضع القهوة امامي؟ الموت يؤثث مشهدنا الأخير ياصديقي، لماذا اهرب منك الى كلمات جوفاء ربما تحمل عقوقا اثبته الوطن في مذكراته الأخيرة، يأتي الموت حين نمل من الحياة، لكن هل تستحق حياتنا هذا الاحتفاء بالثكل الذي يراقبنا مثل شرطي…واقول ياابيض الوجه والروح…كيف احتملت العراق كل هذه السنوات وقلبك يقطر بالحزن على ما ابقيت منك فوق الأرض؟

أيها الكبير الذي جهله الكثير، أيها الطين الذي حمل فورات جهلنا وسرسرلوغياتنا، أيها الجلد المتيبس فوق عظام الأرض..انا مفجوع بك لانك انقصت القريبين مني رقما واحدا كبيرا…اين اجدك اذا بحثت عمن يفهمني؟ أيها السنوات التي حفظت بغدادنا …كنت أقول لك ان المدن ديكور يزول وماكياج لشخص لايُحسن الا القاء الاصباغ على حفلة تنكرنا التي نعيشها من اجل الوصول الى حقيقتنا المغيبة، أقول لك ان الحياة التي غادرتها لاتستحق أن تتمناها من جديد..ليس من جديد تحت شمسك العراقية وهي تغرق في التفاصيل، اذا لكن الوطن انسانك فلا يستحق ان تعيشه من جديد، هذه الأرض شربت من دمانا حد ان تحولت الى وحش لايهمه بقاؤك او رحيلك ياصديقي الأكثر اناقة حتى من الموت نفسه..

اعلم ان الموت حق، وان الحياة تفاصيل وإملاء فراغات ليس إلا، الحياة امتحان…لكنك لم تقل اين يوزعون “الشهايد”؟ وهل يحتفل الناجحون او الناجون منها باكفانهم ام ترى الساقطون يحتفلون بنزع ثوبهم الأخير من المسرحية الأخيرة التي لم يحتف بها المسرح الوطني، لكنك كما ترى، هجرت دور البطولة في مسرحية حياتك التي انتظرت فيها قتل البطل في مشهدها الأخير قبل أربعين صباحا في منطقة الصليخ ببغداد.

البقاء في حياة من أحبك بعد ان عرفك، أيها العراق الاشيب الذي كان يسير على قدمين، يقينا لم يعرفك الكثير، لم تكن سياسيا او إعلاميا تخيط وتخربط في هذا الواقع الممتليء بالديناصورات، يكفيك انك تحمل وطنك تحت جلدك أينما ذهبت، بينما لم يتحملك الوطن نفسه، البعض لايتحمل لحيتك او شاربك الكث، الواقع العراقي نرجسي حد التخمة، كنت أقول لك لو اننا عرفنا مانريد لكفينا العالم شر تفرقنا وحروبنا العبثية، الجميع يرى انه وحده نبي معصوم وقائد اوحد لجميع الخلق في الكون، كلنا عناترة، وجميع من في العالم شيبوب من دوننا، نحن كل شيء وغيرنا لاشيء، الحقيقة تقبع في ملابسنا الداخلية فقط، وللعالم ان يخرج عاريا من دون ملابسه الداخلية حتى لوكان يملك من الإنسانية الكثير، لو ان العراقيين عرفوا طيبة قلبك لصبغوا ثياب حدادهم عليك بالبياض، ولطشّوا تحت قدميك الواهلية وانت تسير متعبا نحو فندقك الترابي، ربما يسمحون لك في اول يوم أن تريهم طريقة ابيك في لفلفة جواريبه بطريقتهم الغريبة وهو يكوّرها مثل كرتين، هل قلت لك ان حياتنا أصبحت مثل الجواريب التي نلبسها ونخلعها كل يوم؟ لكن المشكلة الكبيرة انهم سيدفنونا من دون جواريبنا خشية انسلات خيط حياتنا من موتنا فيحير الملائكة في طريقة البساها ايانا من جديد…

كل موت وانت بالف حياة ياصديقي يا عطر القهوة.

 

[email protected]