21 ديسمبر، 2024 6:05 م

لعنة الذهب ألأسود – 9  

لعنة الذهب ألأسود – 9  

بعد اسبوع من استلامي لنتيجة الامتحان كان عليّ ان احمل حقائبي للسفر الى بغداد مرّة اخرى لأكمل رحلة الدراسة او رحلة العذاب، وبدأت اتساءل لم كلّ هذه الامتحانات في الحياة؟ الامتحان في كلّ مكان وزمان خلال هذه الحياة القصيرة حتّى الله يمتحننا في الحياة الدنيا واذا نجحنا فسيجازينا بالجنّة وان فشلنا فلنا جهنّم وبئس القرار.
اوّل معضلة جابهتني كانت تدبير السكن لانّه لم يكن يحقّ لي البقاء في القسم الداخلي بعد رسوبي وتمّ قطع المنحة الدراسية الّتي كنت استلمها من الجامعة فأحسست بأنّي سأضيف عبئا ماليا على كاهل ابي الّذي كان يرزح تحت ثقل مصاريف العائلة بعد تعطّل شقيقي اردال عن العمل بعد مغادرة شركة المقاولون العرب الّتي كان يعمل فيها القطر نتيجة خسائرها في مشروع ري كركوك ولم يكن شقيقي الآخر يلماز قد توظّف بعد تخرّجه من جامعة الموصل قسم الهندسة المدنية بعدُ لانّ القطر كان يمر بحالة ركود اقتصادي في تلك الفترة نتيجة للحصار الّذي فرضته مجموعة شركات النفط على بيع النفط بعد قرار الحكومة العراقية تأميم نفط العراق.
شركة نفط العراق الشهيرة بتسمية (IPC) هي التسمية التي اطلقت على شركة النفط التركية بعد سقوط الدولة العثمانية. إذ قامت الشركة باستخراج النفط لأول مرة في حقل بابا كركر في عام 1927. وحصلت الشركة على موافقات متعددة لاستخراج النفط في المملكة العربية السعودية والكويت ودبي وكانت الشركة تمتلك حقوق استخراج النفط في تلك الحقول حتى عام 1961.
في عام 1961 قام رئيس الوزراء العراقي الزعيم عبد الكريم قاسم بتشريع القانون رقم 80 الذي بموجبه حدد عمل الشركات الاجنبية بالحقول التي كانت تعمل بها دون السماح لها باكتشاف حقول جديدة حتى عام 1964 حيث أسس الرئيس عبد السلام عارف منشأة عراقية وطنية سميت (شركة النفط الوطنية) وكان الهدف منها البحث عن حقول جديدة واستثمارها وطنيا وفي عام 1972 تم تاميم مجموعة شركات نفط العراق المحدودة (IPC) من قبل الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر.
 
قام مجلس قيادة الثورة بتأميم شركة نفط العراق باصدار القانون رقم 69 في 1 حزيران 1972 الذي تلاه عبر الاذاعة والتلفزيون رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الجمهورية احمد حسن البكر والذي تم بموجبه نقل جميع الاموال والحقوق والموجودات التي آلت الى الدولة عن ذلك الى شركة حكومية جديدة باسم الشركة العراقية للعمليات النفطية لتدار من قبل موظفي وعمال شركة نفط العراق المؤممة.
لقد كان رد مجموعة شركات النفط سريعا حيث اعتبرت تأميم منشآت شركة نفط العراق خرقا لشروط اتفاقية امتيازها وللقانون الدولي واحتفظت بحقها لاتخاذ كافة الاجراءات القانونية ضد الحكومة وكل من يقوم بشراء نفطها المؤمم.
بعد سكني لبضعة ايام في شقّة ابن خالتي في الكرادة الشرقية استأجرت بمشاركة عدد من الاصدقاء شقّة في الوزيرية بالقرب من جسر الصرّافية.
بعد انقضاء شهرين من السنة الدراسية عدت الى كركوك لقضاء عطلة عيد الفطر مع العائلة، هذا العيد الّذي لم يمر كبقية الاعياد، ففي صبيحة اليوم الثاني منه زارتنا قريبتنا احلام لوحدها لتبادل التهاني بهذه المناسبة السعيدة. كانت هذه الزيارة مفاجأة بالنسبة لي لانّ الزيارات المتبادلة بين عائلتي وعائلتها كانت نادرة ففسّرت تلك الزيارة تفسيرا خاطئا كما اكتشفت ذلك بعدئذ ولكنّي احسست في ذلك الصباح الندي بعاطفة جيّاشة نحو احلام وأعترتني رعشة دافئة عندما صافحتني.
ظللت بعد هذه الزيارة فترة طويلة استرجع تفاصيلها وأنسج حولها في خيالي قصّة حب خالدة.
بدأت بعد صبيحة هذا العيد اقتات على هذه القصّة الوهمية الجميلة عامان نظّمت خلالها اجمل قصائدي.
بعد انقضاء اجازة العيد قفلت عائدا الى بغداد محمّلا بحبي ووهمي لأبدأ الدوام في الكليّة مرّة أخرى.
صار دوامي يبدأ في العاشرة صباحا ولأيام معينة من الاسبوع وكنت احضر الدرسان اللذان رسبت فيهما وهما التصميم المعماري وتخطيط المدن.
كنت احضر هذان الدرسان بفكر شارد وذهن مشتت وبلا ايّة رغبة وكنت اتهرّب من بعض المحاضرات وأتخلّف عن تقديم قسم من المشاريع، امّا المشاريع او التصاميم الّتي كنت انجزها فلم اكن ابذل جهدا في اعدادها، وظلّ الارق اللعين رفيقي الدائم في تلك الليالي العصيبة، وبدأ شبح الفصل من الكليّة يطاردني ويسرق النوم من اجفاني، فالرسوب في هذا العام حتميّ اذا ظللت على هذا المنوال، فالنتائج الشهرية والفصلية كانت متردّية وتنذر بحلول كارثة لا قِبلَ لي بتحمل اثارها المدمّرة، فزاد قلقي وغمرتني موجة من الكآبة وانزلقت نحو حافة الانهيار.
في محاولة عقيمة لرفع معنوياتي المنهارة ولكي اتخلّص من احساسي بأنّي اصبحت عالة على والدي وعائلتي، عملت ولفترات متقطّعة في بعض المكاتب الهندسية لاساتذتي ولكنّ حالتي النفسية استمرت في التدهور لذلك قررت تأجيل دراستي لتلك السنة الدراسية وفعلا حصلت على موافقة رئاسة صحّة الجامعة على التأجيل.
بعد صدور الموافقة على تأجيل دراستي لتلك السنة الدراسية أبتُ الى مدينة الذهب الاسود وقضيت فيها الشهور القليلة المتبقيّة من العام الدراسي وشهور العطلة الصيفية.
كان قلبي مايزال متعلّقا باحلام وطلبت من عائلتي ان يخطبوها لي فأنصاعوا صاغرين لرغبتي الجنونية، ولكنّ اهلها أبدوا رغبتهم في تأجيل الخطبة حتّى اكمالنا الدراسة الجامعية وكانت احلام تدرس في كليّة العلوم في جامعة الموصل.
بعد فترة ندمتُ على تسرّعي وأنّبت نفسي لانّي لم اتحقق من شعورها نحوي قبل الاقدام على هذه الخطوة المصيرية فكانت هذه صحوة ومحاولة لرؤية الاشباح بوضوح من خلال ضباب الاوهام الّذي كان يحيط بعقلي حاجبا شعاع الحقائق عن ناظري.
بعد هذه الظروف الّتي عشت في دوّامتها والّتي كانت تتقاذفني يمينا وشمالا قطعت اتصالي بتنظيم الاخوان المسلمون وانكمشت على نفسي داخل قوقعتي وبدأت الشكوك تراودني حول وجود الخالق وارساله للانبياء وتمزّق نسيج عقلي كما يتمزق نسيج العنكبوت في ليلة عاصفة.
في شهر ايلول من خريف عام 1971 عدتُ الى مقاعد الدراسة ولكنّ تفاعلي مع الدراسة لم يصبح في هذا العام افضل من سابقه، فعقلي كان مشتتا ودوامة من التعاسة كانت تلّفني وبات الارق اللعين لا يفارقني كظلّي طاردا الكرى من جفوني فكنتُ اظلّ مسهدا في عتمة الليل حتى انبلاج خيوط الفجر وعيناي تحملقان في سقف الغرفة، وكنت اكتب معظم قصائدي في هذه الساعات العصيبة من اليوم حيث السكون السرمدي يلّف الكون وأنا ممد على الفراش احاور شيطان الشعر في لاشعوري وافكّر في حبّي ومستقبلي.
في محاولة لمعرفة شعور حبيبتي انتفضت وكتبت لها رسالة ضمنتها مشاعري تجاهها وطلبت منها الرد.
بعد انتظار لم يطل جاءني الرد على تساؤلي فايقنت بانّها لا تحسُّ نحوي بأيّة عاطفة حب وتعتبرني كأخ لها وتمنت لي في ختام رسالتها التوفيق والارتباط بفتاة تبادلني شعوري بالحب ورجتني ان امزّق خطابها، وفعلا مزّقت الخطاب فتمزّق معه اوهامي وامالي وقصّة حبّي الّتي وأدتها في اعماقي وبدأت رحلة النسيان.
بعد الصدمة الثانية هذه ازدادت شكوكي حول المسألة الدينية ربّما لانّ العقل الباطن عند تلّقيه صدمة عنيفة يتخلّص من الحجب الّتي تستر عنه العقائد او الافكار الّتي ترّسخت في لاوعيه نتيجة الايحاء والتكرار.
بدأت أُكثِر من مطالعاتي للكتب الفلسفية والفكرية الّتي تلائم اتجاه تفكيري الجديد الى ان وصلت الى قناعة بعدم وجود خالق لهذا الكون وأنّ الله لم يخلق آدم من تراب وأنّ الانسان تطوّر من خليّة نباتية بدائية الى حيوان ثمّ الى انسان يمشي على قائمتين عبر مرحلة تطوّر استغرقت مليارات من السنين، ومما رسّخ اعتقادي هذا اطّلاعي على مؤلف العالم تشارلس داروين في اصل الانواع والمؤلفات الفكرية للعالم النفساني سيجموند فرويد وبالأخص مؤلَّفه موسى والتوحيد الّذي يدرس ويحلل فيه فرويد شخصيّة موسى ونشوء اوّل ديانة توحيدية في تاريخ الانسانية من وجهتي النظر التاريخية والتحليلية النفسية ويحاول ان يثبت بان موسى لم يكن يهوديا بل مصريا وأنّه نقل الديانة التوحيدية للفرعون المصري الثائر أخناتون الى الشعب اليهودي.
انعكس تأثير هذا التحوّل الفكري على سلوكي فانتقلت الى حياة مختلفة عن سابقتها تاركا وراء ظهراني بعض نواهي الدين ولكنّي ظللت محتفظا بمعظم افكاري المثالية وخاصة الاخلاق الحميدة كالصدق والايثار والجوانب الايجابية الاخرى الّتي جاء بها محمّد في دينه الجديد.
في محاولة لنسيان فشلي في الدراسة والحب بدأت بمعاقرة الخمر. في هذه الفترة العصيبة من حياتي سكنت في فندق بغداد الدولي في الحيدرخانة وكان فندقا متواضعا بالرغم انّ اسمه لايوحي بذلك. في هذا الفندق تعرّفت على ماجد وهو احد النزلاء المقيمين في الفندق. كان ماجد شابّا في الرابعة والعشرين من العمر ومن مواليد مدينة الحلّة وكان في تلك الفترة عاطلا عن العمل ولا يملك شروى نقير  وذلك بعد تركه لوظيفته في احدى شركات التأمين الحكومية لعدم اقتناعه بتلك الوظيفة فقد كان شابّا مثقفا ذو طموحات ادبية ويرغب في ممارسة الصحافة ككاتب للمقالات ولكنّ ارائه واتجاه تفكيره كانت متناقضة مع معتقدات الحزب الحاكم واعني به حزب البعث العربي الاشتراكي.
كان ماجد يعيش في بغداد حياة بوهيمية، ينتقل بين الحانات ويمارس الجنس مع المومسات كلّما اتاح له وضعه المادي ذلك.
بدأت ارتاد الحانات الوضيعة في شارع ابو نؤاس والباب الشرقي برفقة رفيقي ماجد كلّما توّفر لدينا بعض النقود ومرّت علينا ايام عصيبة لم نكن نملك فيها مالا لدفع ثمن طعام الغداء او العشاء.
أثّرَت الظروف النفسية الّتي كنت امرُّ بها نتيجة للتحولات الفكرية الّتي زلزلت كياني على دراستي في الجامعة، لقد كنت كمن خرج من قرية انفجر بقربها بركان ثائر وخلّف وراءه اثارا مدمرة من حرائق ودخان وموت الانفس لذا كانت نتيجة دراستي في الجامعة الفشل مرّة اخرى ففُصِلت من كلية الهندسة نهائيا وايقنت بانّ جميع الجهود الّتي بذلتها خلال سنين دراستي الطويلة اصبحت هباء منثورا وذهبت ادراج الرياح، فازداد قنوطي ويأسي واصبحت الحياة لا تطاق وبدأت فكرة الانتحار تراودني بين حين وآخر لانّي كنت اراها طوق النجاة الوحيد للتخلّص من عذاباتي.
كنت استيقظ فزعا من النوم من جراء الكوابيس الّتي كنت احلم بها اثناء النوم فكرهت النوم بالرغم انّ النوم هو الملاذ الآمن الوحيد الّذي يلجأ اليه المصابون بالقلق الشديد، واستمر الحال على هذا المنوال الى ان وصلتُ الى حافّة الانهيار التام.
…..يتبع
من مسوّدة كتاب (لعنة ألذهب ألأسود)