# مقدمة: حين تصبح البساطة طوق نجاة في عالمٍ معقّد
في عالم تتسارع فيه الإيقاعات حدّ الاختناق، وتتناسل فيه المشكلات من رحم القلق والتوتر، تغدو البساطة ليست خيارًا سلوكيًا، بل وسيلة للنجاة، وفلسفة حياة، وموقفًا وجوديًا عميقًا في مواجهة التعقيد النفسي والاجتماعي المتفشي.
لم تعد البساطة تعني فقط أن نعيش بخفّة، بل أن نفكّك صواميل التعقيد التي غُرِست في وعينا الجمعي، ونكفّ عن تأليه المشكلات وتضخيم التفاصيل.
أولًا: البساطة لا تعني السذاجة… بل وعي راقٍ بالحياة
الخطأ الأكبر أن تُختزل البساطة في مفهوم ساذج يدل على ضيق الإدراك أو ضعف الحيلة.
الحقيقة أن البساطة هي نتاج تجربة، وتراكم من الفهم العميق للناس والوقائع، وذكاء خفيّ يختار الصمت على الضجيج، واللين على الصدام، ويُدرك متى يُقاوم، ومتى يتجاوز.
أن تكون بسيطًا، يعني أنك اخترت العافية النفسية على فوضى الانفعال، وأنك فضّلت النقاء على الغوص في مستنقعات الجدال.
ثانيًا: البساطة كفنّ اجتماعي مضاد للتعقيد المَرَضي
في المجتمع العراقي، كما في مجتمعات الشرق المأزومة ، يتفشى ما يمكن أن نُسميه بـ”التعقيد المَرَضي” — حيث تتضخم الانفعالات، وتُؤلّه التفاصيل، وتتحول كلمة عابرة إلى حرب، ونقد عادي إلى معركة شرف!
في مثل هذا السياق، تكون البساطة مهارة وجودية.
أن تتعامل مع الناس ببساطة يعني أن تمنحهم الشعور بالأمان، أن تُريحهم من فخ الشك والتأويل والتصعيد.
وحين تملك هذه المهارة، تكون قد أمسكت بخيط الهدوء وسط عاصفةٍ من الفوضى.
ثالثًا: البساطة والتوازن النفسي
البساطة ليست في السلوك فقط، بل في طريقة التفكير أيضًا.
من يفكّر ببساطة، يعيش بسلام.
ومن يعقّد الأمور في رأسه، سيعيش مُثقلاً بالهواجس.
التفكير البسيط لا يعني الهروب من الواقع، بل رؤيته من زاوية غير مأزومة.
هو أن تدرك حجم الأشياء الحقيقي، فلا تُعطيها أكبر من مساحتها، ولا تُهملها حدّ التجاهل.
رابعًا: البساطة موقف سياسي في زمن الفوضى الرمزية
حتى في السياسة، البساطة موقف.
أن تتعامل مع الواقع بما هو عليه، دون مواربة أو خطابات خشبية، هو قمة النضج.
أن لا تتورط في تصنيفات إقصائية، ولا تبتلع الطعم الطائفي في كل شاردة وواردة، هو شكل من أشكال البساطة السياسية، التي تعني الوضوح، لا البلادة، وتعني الاختصار لا السطحية.
البساطة هنا تعني أن تزن الأمور بميزان المصلحة الوطنية، لا بالأحقاد والتأريخ الشخصي، وأن لا تُعقّد المسائل من أجل التميز الفارغ.
خامسًا: البساطة والكرامة… حين لا تحتاج إلى صراخ لتثبت ذاتك
البعض يعتقد أن رفع الصوت وسرعة الغضب وكثرة التعقيد هو ما يمنحه الهيبة.
والواقع عكس ذلك تمامًا.
الإنسان الواثق لا يصرخ.
الإنسان الكريم لا يُعقّد.
والرجل النبيل هو من يختار التسامح حين يكون قادرًا على البطش.
البساطة ليست ضعفًا، بل سلطة داخلية تفرض نفسها دون إعلان.
سادسًا: كيف نُعيد البساطة إلى تربيتنا وبيوتنا؟
في البيوت، يجب أن نُعلّم أبناءنا ألا يُفسّروا كل كلمة، وألا يُراقبوا كل تصرف، وألا يحملوا الآخرين فوق طاقتهم.
في التربية، البساطة هي أن نقبل أبناءنا كما هم، لا كما نتمنى.
وفي العلاقات، هي أن نُحبّ الناس دون شروط، ونتغافل كثيرًا، ونتجاوز أكثر.
إن أعظم أشكال النضج هو التغافل، وإن أنقى العلاقات هي تلك التي لم تُعقّدها التوقعات.
# خاتمة: البساطة كنمط حياة… لا بديل عنها
في النهاية، البساطة ليست حالة مؤقتة، بل خيار دائم.
أن تعيش ببساطة، يعني أن تنجو من الغرق في التفاصيل السامة، أن تهرب من غابة العلاقات المعقّدة، أن تحب نفسك من دون تعقيد…
وأن ترى الحياة كما هي: جميلة في جوهرها، إن نظفناها من كل هذا الغبار النفسي والاجتماعي الذي تراكم علينا.
البساطة ليست أن تكون خفيفًا في حضور الناس فقط، بل أن تكون عميقًا في داخلك… دون صخب.
عرض 200220~1.JPG.