عبد الأمير محيميد… ربيع الشوملي الذي أزهر في فجر الإعدام

عبد الأمير محيميد… ربيع الشوملي الذي أزهر في فجر الإعدام

في ناحية الشوملي الوادعة، وبين نخيلها الساكن وناسها الطيبين، ولد عبد الأمير محيميد عبيس السعيدي عام 1943، وولد معه حب مبكر للعدالة، ونفور من الظلم، وإيمان لا يتزعزع بكرامة الإنسان. نشأ في بيت تفتحت فيه بوادر الوعي السياسي مبكرًا، فمقهى والده لم تكن مجرد مكان لشرب الشاي، بل ملتقى للأفكار الوطنية والتقدمية، ومنبرًا حرًا للشيوعيين والديمقراطيين في زمنٍ كانت فيه الكلمة تقاوم البندقية.

منذ نعومة أظفاره، شارك عبد الأمير في التظاهرات المناهضة للإقطاع، وكان له في أول أيام ثورة 14 تموز 1958 موقفٌ يليق بمن تفتّح وعيه في حضن حزبٍ آمن بالفقراء واحتفى بالفلاحين. انخرط شابًا في صفوف الحزب الشيوعي، حاملًا شعلة التغيير، متسلّحًا بثقافة التنظيم، وفهم عميق لمبادئ العدالة الاجتماعية. لم يكن مجرد ناشط، بل صوتًا جهيرًا للحقيقة، ومثالًا حيًا للشيوعي الذي يترجم أفكاره إلى فعل.

حين فرضت عليه الخدمة العسكرية، لم تكن بالنسبة له قطيعة مع النضال، بل امتدادًا له بوجهٍ آخر. فالتحق بمعسكر الغزلاني، وهناك، وسط التناقضات والانضباط العسكري، انخرط في تنظيم الحزب داخل صفوف الجيش، يبث الوعي في القلوب، وينسج الخيوط الأولى لما سيكون لاحقًا واحدة من أجرأ المحاولات للانقلاب على حكم البعث الدموي.

بعد انقلاب 8 شباط 1963 الدموي، ووسط الدخان الكثيف الذي لف العراق، لم يستسلم الشيوعيون، وكان عبد الأمير أحد أولئك الذين أصروا على مقاومة القتلة، فشارك في ما عُرف لاحقًا بـ”حركة فايدة”، وهي محاولة عسكرية منسقة، قادها الرفيق طالب عبد الجبار عضو اللجنة المركزية، لتحريك القوات العسكرية من دهوك والموصل وكركوك نحو بغداد لإسقاط الانقلابيين واستعادة الثورة.

التحضير كان محكمًا، والخطط مرسومة بدقة، لكن القدر خان الخطى. ففي اللحظة التي سبقت انطلاق الشرارة، اكتشف ضابط الخفر في معسكر فايدة أحد ضباط الصف وهو يهيئ سلاحه، فساوره الشك، وتم اعتقاله، لينهار تحت التحقيق ويبوح بكل شيء. فشلت الحركة قبل أن تُولد، وانهارت معها أحلام رفاقٍ آمنوا بأن ساعة الخلاص قريبة.

عبد الأمير، الجندي الذي حمل على كتفيه همّ وطن، اعتُقل مع العشرات من رفاقه، وحُكم عليه بالإعدام مع مجموعة من العسكريين الشجعان، نُفذ بهم الحكم رميًا بالرصاص في معسكر الغزلاني، صباح يوم 13 أيلول 1963، في محاولة لإرهاب الجيش وإخماد جذوة التمرد.

لكن الموت لم يكن نهاية لعبد الأمير، بل بداية لحياة أخرى في الذاكرة الحية. ففي الليلة التي سبقت إعدامه، زاره والده في الموصل، ولم يرَ فيه خوفًا أو ترددًا، بل شجاعة مدهشة وهدوء من يواجه الموت وكأنه ذاهب إلى وليمة. سلّمه ساعته وملابسه، وودّعه بهدوء المحارب، ثم مشى إلى مصيره على وقع أغاني الحزب وهتافات تمجّد عبد الكريم قاسم والثورة. وكأن الساحة ساحة احتفال لا ساحة إعدام.

دُفن الشهيد في مقبرة وادي السلام في النجف، لكنه بقي حيًا في ضمير رفاقه، وفي ذاكرة الشيوعيين، وفي كل قلب آمن بأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وبأن الحياة لا تكتمل إلا حين تُعاش من أجل قضية.

كان عبد الأمير محيميد زهرة نبتت في أرض الشوملي، فأثمرت في فجر الغزلاني، لتصبح شاهدًا على جيلٍ آمن بحلم، ومضى إليه، ولو كان الثمن الرصاص.

أحدث المقالات

أحدث المقالات