22 ديسمبر، 2024 9:05 ص

شمعة الشعر ومصباح النقد

شمعة الشعر ومصباح النقد

إن الحياة ليست سوى شمعة ومصباح اندمج لهيبهما؛ ليكونا شعلة مضيئة في سنوات الجمر، إذ يصرح الأستاذ الدكتور الناقد عبد الكريم راضي جعفر في مقدمة كتابه الأخير عن تراقص تلك الشعلة المخبوءة في النص من خلال بعثه لومضاتها في الذهن وعن الظروف التي كتبت فيها هذه البحوث  ( هذه بحوث كتبتها في سنوات الجمر العشر التي امتدت ـ بكل أثقالها ـ على حياتنا الخاصة والعامة …. السنوات العجاف .. سنوات الحصار التي قبضت على الأنفاس ) ص 5 ، فليس من قبيل المبالغة أو التمجيد المتحيز أن نكتب حول هذا الكتاب ؛ ذلك لأن المرء ليشعر عند قراءة هذا الكتاب بالمتعة الشعرية في متانة نصه النثري ، أقول الشعرية ؛ لأنه صدر عن صدر شاعر ، وأي شاعر … يسعى المؤلف في سفره إلى إكساب تجربته النقدية خاصية الفن الشعري ، بما تلح عليه روحه الشعرية على خلاف سواه الذي  يطلسم نقده غير المفهوم ؛ لأنه ـ المؤلف ـ يستقبل النص بكل حواسه استقبالاً صادقاً بذوق رفيع في الاختيارات للنصوص ، التي تتناسب مع ما يهدف إليه فــ( انتهت البحوث إلى تأسيس الشمعة والمصباح ؛ ليكون شاهداً للتوق و الإبداع اللذين يشكلان خرماً لسنوات الجمر فكانت الشمعة ميلادا لبحوث في الشعر والنقد وكان المصباح ميلادا لبحوث في النقد والشعر ) ص5 وإذ يوصف الكتاب بأنه يحترم تجارب الآخرين قديماً وحديثاً ؛ لمعيار فني خالص ، وإذ يسمو الكتاب بهذه التجارب إلى مرحلة الخلق النقدي التنظيري والإجرائي ؛ فيأتي في بابين : الأول جعله مؤلفه (في النقد) وضمنه بحوثاً لا يستغني الباحث عنها ولعل من أهمها : اهتزاز العقلنة الذي كان مادة دسمة لطلاب الدكتوراه في الجامعات العراقية ، أما الباب الثاني ، فجعله المؤلف ( في الشعر ) وفيه مباحث ، ولعل من أهمها ( بنية الرمال المتحركة : بحث في غموض قصيدة النثر للشبان العراقيين ) و( تكرار التراكم وتكرار التلاشي ظاهرة أسلوبية ـــ تطبيق على الشعر العراقي الحديث ) وهنا نود أن نسجل براءة اكتشاف الظاهرة والمصطلح للمؤلف ؛ لأنه وقف على ظاهرة أسلوبية في الشعر العراقي الحديث وهي تكرار التراكم الذي عرفه بقوله : ( هو التكرار الذي يشير إلى الزيادة أو كثافة الإضافة المؤدية إلى دلالة تجسد نوعاً من التضخم المنظم على شكل ثنيات مرتبة ) ص 237 ويطبق إجرائيا على نماذج من القصائد العراقية ، يبدؤها بقصيدة نازك الملائكة ( بقايا ) ثم السياب في قصيدته ( في السوق القديم ) وآخرين ثم يعرج ؛ ليعرف لنا تكرار التلاشي بقوله : ( المقصود به إقامة دلالة الاضمحلال على لحظة شعرية ) ص 248ويأتي أجراؤه النقدي على قصيدة السياب ( اتبعيني ) مشيراً إلى أن السياب قد يلجأ إلى الحذف والقطع لتحقيق هذا التكرار كما في قصيدة ( نهاية ) وغيرها من قصائده أو قصائد سواه من الشعراء كيوسف الصائغ ؛ أما بحثه الموسوم بــــ ( قراءة في نص قديم : ثنائية الزمن الوجداني : الزمانية السلبية والزمانية الإيجابية ) فجاء بقراءة مبتكرة وواعية للزمن الذي اصطلح عليه الزمن الوجداني ( بوصفه إحساساً إنسانياً تشترك فيه أمم الأرض جميعاً في كل زمان ومكان ) ص 261 متخذا نصاً وهو قصيدة لجميل بثينة مثالاً إجرائياً ليسجل فيها رؤاه النقدية حول الزمن الوجداني السلبي / الإيجابي في النص الشعري ؛ ليسجل فيه ذرات الزمن لا كما سقطت ، بل كما أوحت بزمن خاص ، فلسفه المؤلف ، بأنه ينبسط وينقبض ، يتأخر ويتقدم بالهمس ، بالصمت والكلام ، حافل بالحاضر والعود للماضي . تنماز بحوث المؤلف في هذا الكتاب بأنها انتصرت على الزمن السلبي ( الحصار ) ليندمج في زمن إيجابي إلى حد ما منتقلة ـ البحوث ـ من دائرة القدر والمصير إلى دائرة الوعي والحرية فحسبه أنه يلتقط ما تقع عليه عدسته الشعرية / النقدية؛ فالكتاب مناخ كامل من الأفكار والرؤى ؛ بيد أن صاحبه من الذين يعتدون أولاً وأخيراً بحرية الخلق وإطلاق العنان للخيال ، والكشف عما هو مخبوء داخل النص لأنه التمس السير في دروب مضاءة بالشموع والمصابيح سائلاً نفسه وإيانا( ترى هل كانت سنوات الجمر قادرة على إنضاج الخبز والكتابة ؛ لنكون : أنا وأنت ـ على الرغم من ضآلة أجسامنا ـ بثقل حجر كريم ؟! ).