21 ديسمبر، 2024 7:32 م

في بلاد تُفرّك عينيها ، من الملل أوالضجر . كلاهما واحدٌ ، وبينهما شعرة . الشعرةُ خارجَ مألوفها لا تضر ولا تنفعُ . هي سائبة ٌ كالطيش ، كالوجع . الوجعُ يتمشّى فوق اللحظة . واللحظة ُشريطٌ أخضر ُ . لا ، قال مُحدّثنا. هي لا تُهادنُ ، بل تُدندنُ في اوردة اليقظة .  الكلابُ لها تواقيعُ مُلغزة ، ولها أبوابٌ تفضي بها الى الريح . والريحُ تُكلمها عن القراصنة يأتون مع نبضات الفجر . والفجرُ يسرقُ براءتهم وشراستهم . أيّنا افضلُ من كلب ضال ؟ لنا المخالبُ والأظافرُ نكتب بها تأريخنا المُمرّغ في خطاب الأكاذيب . على قارعة المصير التقينا ، انتَ يجرفك تيارٌ الى هناك وأنا يأخذني غيره الى المجزرة . كلانا توأم في التيه ، صفحة ٌ مهترئة . وأنت ِ أيتّها الرحمة لمَ نزعت ِ جلباب براءتك وانخرطت ِ في رجمي ؟ في مقاهي الأصياف كان المنسي حسنُ خيوكة يقرأ المقام ، ولا تسمعه اذن ٌ . وكلُّ الآذان مستغرقة في التطرّف ولا تتصرّفُ الّا في العناد . كان خيوكة يتسكعُ في شوارع الجوع ، مُدندناً يُسمعُ الطريق والريح آخر انجازه . وكان الزمنُ العُضالُ غيّبَ نصف ساعة من شريط غنائه يُسمعُ فيها العراقيين جديد مقاماته . كنا التقينا في ممرّ التشرّد عام 1961 انا مفصولً من الجامعة ، وهو نصف حياة منقطعٌ عن الغناء . وعشاقه ينتظرون ميقاته الاسبوعي. يومئذ ٍسقطتْ هيبة ُ بدلته البُنيّة الخَلِقة ، كما تهرأ صوتُ حذائه . كنتُ احملُ له سيخي الكباب كلّ ضحى في مكتب محاماة لقريبي ضيفاً مُكرّماً عنده، ويدعوني الى وليمته الفقيرة واعتذرُ . أنا شبعان . لكنّ بطني كان يصرخ : كذّاب . ثمّ آتي له باستكانة الشاي . خيوكة يأبى نزع سدارته ويُسمعنا شظايا من مقام الرست والسيكاه والبيات والصبا  و.. و…. . . آه ، ايّها الكردي الفيلي لمَ يُقمعُ المرضُ نسيجَ غنائك ويرمي بمجدك في اقاليم الترهات ؟ اسألك يازمنَ َ الطرب الطريّ لم َ قطعتَ آواصرَ أيامِك العابرة عن الغناء ؟ فيُجيبني أنّه لم ينقطعْ ، لكنْ كانت ثمة َ قطيعة ٌ حصلت كرهاً عن سبق اصرار . أنا رميتُ حياتي في وهج المقام العراقي والزمنُ ساقني الى الجوع والتشرّد والظلام . الظلام من حولي ، لكني في الداخل كنتُ اتوهجُ . نعم متُّ لكنّي لم امتْ . وظلّ ظلي وشعاعي يجريان في دروب بغداد ، اسمعُ صداي في الكرخ والكاظمية وباب الشيخ . النغمُ الحرُّ لا يموتُ .
أتركُ خيوكة في منتصف شارع الأمين يحمله الجوع ُمن زقاق الى آخر ، ومن صديق الى سواه . فليس عيباً أن يموتَ قاريءُ المقام من الجوع فقد سبقه ولحقه اسرابُ مبدعين : ادباء ومسرحيين ومطربين ورياضيين . الجوعُ ما كان عيباً وكذا المرض والعمى والصمم …. سأترك دجلة ورائي يُغمغم وحدَه يقطعُ آصرة المسافات وتتراقص اشرطة ُ الضوء فوق صفحته . دجلة ُ كان الطفولة َ والنزق والمغامرة والخطر احياناً . وكان الشاطئان يلتقيان عند جنوننا وشططنا . فصرنا الشطَ والضفاف . وكان شارع الرشيد ممرّ خطانا إمساءً حين يلفظنا النهار من مسؤولياتنا . والحبّ يدقُّ اولَ مرّة بوابة فتوتنا المبكّرة . يا له من زمن يطولُ ويقصر نقطعه من باب المعظم حتى فوهة باب الشرقي . وبرفقتنا الحلمُ ، نغدو خلاله رجالاً نتزوّج أكثر من امرأة تصادفنا على الأرصفة . ننجبُ ونتخرّج في الجامعة ، ولنا ضروعُ وظائف تزخّ بالرزق الحلال . هلمّ اسماعيلُ نلج سينما بردواي ونمضي وقتنا مع كيم نوفاك الفاتنة ووليم هولدن المتسكع في فيلم / نزهة / فهل يتيحُ الزمنُ البغدادي لنا ان نكون مثله ؟ تركني اسماعيلُ ونام تحت برودة الصالة ، وانا تقمصتُ دورَ الممثل امضيتُ وقت الفيلم مع نوفاك التي تشبه امرأة كنتُ اعرفها . كانت تناولني زهرة كلّ صباح حين اذهبُ الى المدرسة ، تقول اعطَها له . تقصد اخي الذي يكبرني . تذبل زهرةُ الجوري في جيبي الفقير، وانسى أو اتناسي تقديمها له . تلك الزهرةُ كانت قصيدة ً او رسالة او كلمات بوح خفيّة تضمرها نوفاك الكركوكية لأخي . ما كنت واعياً سريرة نسيج الحبّ تُلهبُ روع العاشق والعاشقة . كنتُ أيامئذ عابراً فوق العواطف ، وطفولتي مُكرّسة ٌ للبراءة . ثمّ… عرفتُ انّ الزهرة تكون احياناً صاعقة ً، اوحُمّى تعرو شراييننا . وهي البدءُ والشرارة ُ والطوفان والجحيم . تخترق حدود العقل والحكمة . فهل تلقى خيوكة الفقيرُ زهرة من نوفاك على طول شارع الكفاح . لقد رأيتُ فقره الأثقل من الموت . وعرفتُ انّ الزمن يجيء بأصنام تحجّر فيهم روحُ المواطنة حتى استحالوا عقارب تلدغ مَنْ ليس عقرباً مثلهم . رحل خيوكة في 1962وأبقى مجداً يجري في عروق الزمن ، فيما توارتِ العقارب طيّ النسيان .
وإنْ رفض اسماعيل تلبية َدعوتي فتتلقفنا بوابة الأورزدي أو حسو أخوان ، او مدخل سينما الملك غازي فنقف على حاشية الممرّ نتملى في وجوه جميلات بغداد ذوات العيون الناعسات . وعلى الرغم من بون المسافة بيننا وبينهن تصل حدّ سنوات ضوئية ، فان رعشة الحبّ فينا تُلغي تلكم المسافات ، فنتلقى ابتسامة ً أو نظرة تنغرسُ في عظامنا مدى الحياة . لكنّ اسماعيل كان يؤثرُ ارتياد سينما دنيا في مبتدأ شارع الأمين . وكان يشاهد الفيلم في الدور المسائي الأول وينام في الدور الثاني تحت برودة مكيفات الصالة ، فليالي بغداد الصيفية في غرفتنا البالية على سطح الفندق قائظة كفرن المخبز . لكنّ ذلك اللفح الخارج من الجدار والبلاط لا يمنعنا من الحلم . نعيدُ وتيرة اليوم مرّة ً أخرى بكلّ خلائقها . او تُبحرُ بنا المصادفة ُ في مجاري حياة اخرى نقتني فيها كتباً يتعذر الحصولُ عليها ، او نتناول اطعمة لا يدلنا عليها مالٌ . أو نقدّم ازهاراً لأيّ عابرة مخملية العينين . الحلمُ وطنُ الفقراء . فهل كان حسن خيوكة يحلم مثلنا . اغلبُ الظنّ أنّه كان يقفُ امام نافذتها ويترك زهرته تقرأ مقاماً لها تضجُّ بالمشاعر الشبحية ، بالوهم الطازج ، بالأماني الخُلب . بمطر الأصياف . بل كان يستل منها لونها الأرجوان يرميها الى نافذتها ويستبقي له الأرج والجسد والنداوة . رحل خيوكة مجداً وفقراً وتأريخاً ، يتذكرّه الأجيالُ ، بينما غشي مضطهديه وقاطعي لقمته الغبارُ والصدأ . أنا واسماعيل وعينا معضلة فقرنا ، استقيناه من مصادرنا الفكرية التي تورطنا فيها . لكنّ خيوكة اعتبرها قدراً الهيّاً يلمسُ مَنْ يشاء ويُهملُ غيرهم . هم اغنياءُ المال ،  وهو يمخر في سفينة الخلود ، وبدأت خُطى سطوعه من إذاعة قصر الزهور الملكي عام 1934. الأغنياءُ يطويهم الموتُ ويستحيلون نسياً منسياً . ونحنُ أين موقعنا ؟ …. فلنا الذكرياتُ والماضي الذي يُباغتنا بين وهلة ووهلة . لكننا ، وبخطوات قويّة ، نقطعُ الطريق . نبدعُ ونتكاسل ونتناسل ونقرأ ونمشي في الأسواق . لكنَ ما يُميزنا انّنا سيُخلّدنا الزمنُ ، لا بالمال والعيش المُرغد ، بل ببضعة كتب سجلنا فيها ما رأينا وما رآه الزمنُ فينا .وبقي حسن خيوكة في ذاكرة الزمن عشباً كرديّاً / فيليّاً / يأبى اليباس . ومقاماتُه تجري وتصدحُ في دروب العراق وأوردة مواطنيه ما بقي الزمانُ جنباً الى جنب مع الغزالي والقبانجي ورشيد القندرجي ويوسف عمر وزهور حسين ولميعة توفيق وفريدة . هؤلاء صنعوا مجد العراق ، أمّا الساسة ُ فرمونا في وحل الطائفية والعشائرية والعنصرية وفي برك الدم والإقتتال .